تابعنا
مع بدء العملية الانتخابية في إسرائيل، تشهد حلبتها السياسية حالة غير مسبوقة من الانشقاقات والتحزبات الجديدة، مما قد يسفر عن مشهد انتخابي غير متوقع، بسبب الانقسامات داخل المعسكرات الإسرائيلية، اليمين واليسار.

هذا فضلا عن الانقسامات داخل كل معسكر على حدة، وهو وضع يتخوف منه الإسرائيليون أن يأخذ دولتهم إلى تفكُّك من داخلها.

لعلها ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل أن يتم الدعوة لإجراء أربع انتخابات مبكرة خلال عامين فقط، مما استدعى بالضرورة نشوء حالة من موت الآيديولوجيا والأفكار السياسية، وحصر التنافس في البعد الشخصي، والشخصي فقط، وهذا يشمل جميع الأحزاب: الليكود، أزرق-أبيض، إسرائيل بيتنا، حزب العمل. الجميع متشابهون وغير مبالين، حتى باتت سياستهم بلا منصة حقيقية، وأصبحت مملة.

وضع دولة الاحتلال الإسرائيلي اليوم يذكّرنا بعام 1973 حين خاضت حرباً مروعة ضد مصر وسوريا، وبعد أربعة أعوام على اندلاعها جاءت سنة 1977 التي حدثت فيها الاضطرابات، وكشفت عن نقاط ضعف وفشل لها ولحكومتها ، واليوم يتكرر المشهد ذاته، بصورة أكثر قسوة وحدّة، ويعني أن يشكّل إنذاراً عن اضطراب اليوم التالي لإجراء الانتخابات المقبلة في مارس/آذار.

شهدت إسرائيل العديد من الاضطرابات في عقود سابقة بين اليمين والوسط والمتدينين، لكن صراعاتها اليوم ليست بين هؤلاء، أو بين الآيديولوجيات المختلفة والمتعارضة والمتضاربة، بل ببساطة مع بنيامين نتنياهو أو ضده.

المعركة السياسية اليوم في إسرائيل أصبحت ذات أبعاد شخصية حول من سيقود الانقلاب في قيادة الليكود، والنقاش الوحيد المتبقي فيها هو من سيكون سائق المركبة، دون حديث عن السيارة والأمتعة، ما يؤكد أن الوضع الذي تعيشه إسرائيل يشبه الرمال المتحركة، وقد هبطت التطورات المتلاحقة على ساستها مثل العاصفة.

تظهر مئات الآلاف من الأصوات الإسرائيلية التي ليس لها انتماء سياسي محدد، وموقفها مُنصبٌّ فقط تجاه نتنياهو، وباتت بحاجة ماسة إلى الولاء الآيديولوجي، بعد أن باتوا يشعرون أن الفوز في الانتخابات لا يؤدي إلى تحقيق المثل العليا، لذلك باتوا يذهبون مع الأسماء والأشخاص، بدلاً من الانحياز للأفكار السياسية.

يؤكد ذلك أننا نشهد تغييراً كبيراً في إسرائيل، ويبقى السؤال المهم ليس ما إذا كان نتنياهو سيفوز مرة أخرى في الانتخابات أم سيخسر، فالسؤال الأكثر أهمية: لماذا تخلت إسرائيل عن الجدل الآيديولوجي الذي يصعب تحديده، بدليل ظهور المزيد والمزيد من المبادرات السياسية والانشقاقات الحزبية؟

النتيجة الفورية لهذه التطورات السياسية المتلاحقة أن الخريطة السياسية في إسرائيل لم تشهد قط مثل هذه الفوضى في الكنيست والحركات السياسية الملتوية، والتواصل والانفصال والانضمام والمغادرة، واللافت أن غالبية المجتمع الإسرائيلي لا يديرون نقاشاً مثمراً حقيقيّاً دون إهانات وألفاظ نابية.

مع العلم أن هذا السلوك يشمل علاقات اليهود والعرب، المتدينين والعلمانيين، الفقراء والأغنياء، ورغم أن هذه النقاشات ترتبط بالقضايا الدراماتيكية، فإن الإسرائيليين يفضلون إغلاق أعينهم، لأن أيّاً من الأحزاب والحكومات في السنوات الأخيرة لم تقدم لهم العلاج اللازم.

أكثر من ذلك، فإن الإسرائيليين يعيشون أجواء مستمرة من العاصفة، بسبب المعسكرات السياسية والحزبية اليائسة وغير المبالية بالنقاشات الأساسية، مع زيادة الفجوات الاقتصادية والاجتماعية التي تقسم المجتمع الإسرائيلي، الذي لم يعد يركز على البرامج الآيديولوجية، ويكتفي بالتسويق الشخصي لقادة الأحزاب، وهذا أول مؤشرات الفوضى والانهيار.

ووسط الإجراءات المتلاحقة لبدء الانتخابات الإسرائيلية في مارس/آذار، شهد حزب الليكود اليميني الحاكم زلزالاً سياسياً كبيراً، حين أعلن غدعون ساعر، أبرز خصوم بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة، انشقاقه عن الحزب، وخوض الانتخابات القادمة بشكل مستقل تحت شعار "أمل جديد"، وقد أطلق ساعر جملة من المسوغات التي تبرر له انشقاقه هذا، بالقول إن الليكود تَغيَّر بشكل كبير في السنوات الأخيرة، واستُبدل الولاء فيه بدل القيم والأفكار، بعبادة شخص نتنياهو، ما يجعل أجندته السياسية من اليوم وصاعداً هي استبدال حكم نتنياهو، الأطول في تاريخ إسرائيل.

جاءت خطوة ساعر هذه في توقيت صعب على نتنياهو وهو يعالج أزمة جدية تعيشها إسرائيل، سواء بسبب تفشي كورونا، أو المشكلة الاقتصادية، وصولاً إلى الخلافات الحزبية داخل الائتلاف الذي انهار بالفعل، وفي النهاية فإن انشقاقه هبط مثل صاعقة في يوم صافٍ، وبقدر ما أصرّ على إذلال نتنياهو، وإهانته، فإن السؤال الذي يطرحه الكثيرون هو مَن سينضم إلى هذه العاصفة، لأنه سيخلط الأوراق مرة أخرى، وجهاً لوجه مع نتنياهو.

أما معسكر يسار الوسط، فقد شهد هو الآخر تحركات حزبية متسارعة مع انطلاق العملية الانتخابية، بخاصة بعد إعلان عضو الكنيست عوفر شيلح تشكيل حزب جديد، وانشقاقه عن يائير لابيد زعيم حزب "يوجد مستقبل"، وتصريح عمير بيرتس زعيم حزب العمل بعدم ترشُّحه مجدداً لرئاسته، ويفسح المجال لقائد جديد يعيد تأهيله، ما يؤكد أن استعدادات يسار الوسط ليوم الانتخابات بدأت العد التنازلي.

كما أن رئيس حزب أزرق-أبيض بيني غانتس أكد لرفاقه أنه ليس لديه نية لاعتزال الحياة السياسية، رغم بقاء علامات الاستفهام تحوم حول المصير السياسي للأعضاء الآخرين في قائمته، لأن غابي أشكنازي وزير الخارجية أعلن اعتزاله العمل السياسي، ووزير القضاء حسم خياراته بالانضمام إلى رئيس بلدية تل أبيب رون خولدائي، وهناك مزاعم أنه يُجري محادثات مع عمير بيرتس لقيادة حزب العمل، خلفاً له.

بدا لافتاً أنه في ذروة الأزمة السياسية التي يعانيها الإسرائيليون، فإنهم باتوا يراقبون سلوك الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترمب، وهو يحاول أن يترك خليفته جو بايدن محترقاً، حين صعّد الموقف ضد إيران، وأصرّ على منح كل أمريكي 2000 دولار من الخزانة الفارغة، ما سيترك وراءه أمريكا ممزقة ومنقسمة، ورغم تفشي الوباء يتجه ترامب إلى فلوريدا لموسم العطلات، ويمرح مع أصدقائه بلعبة الغولف، وحتى هذه اللحظة لم يعترف رسميّاً بخسارته، ولم يتصل لتهنئة بايدن.

لعل سبب استحضار السياسة الكارثية لترمب وجود العديد من أوجه الشبه بينه وبين نتنياهو، فالاثنان لديهما حوار مشترك، وبعض القواسم المشتركة، وهذا يفسر تفاهمهما الكبير خلال السنوات الأربع من ولاية الرئيس، لكن السؤال الذي يراود الإسرائيليين هو: هل نتنياهو سيتصرف في الوقت المناسب مثل صديقه الأمريكي؟ أي هل سيأتيهم بالطوفان، بخاصة مع توافر علامات تدلّ على ذلك؟

في هذه العجالة يمكن رصد جملة من القواسم المشتركة في تدهور الظروف الداخلية بين إسرائيل وأمريكا، أهمها عدم وجود ميزانية مستقرة، والهجوم على وسائل الإعلام، والتحريض على الكراهية، وصرف النيران عن صناع القرار، وما يبذله الاثنان، ترمب ونتنياهو، من جهود لإضعاف أسس النظام السياسي، وعدم فصل السلطات، وخفض الثقة بالحكومة، والإجراءات الرسمية، وطعن الحكومة المتعطشة للسلطة، على الجهازين التشريعي والقضائي.

في الأسابيع المقبلة ستنجر إسرائيل إلى حملة انتخابية رابعة خلال عامين، وهو إنجاز لم يسجّله رئيس وزراء إسرائيلي لنفسه من قبل، مما يطرح السؤال عن المسؤول عن الوصول إلى هذا الوضع الكارثي، لأن مرور سنتين من التحضيرات الانتخابية يحطّ من قدر إسرائيل على مستوى العالم، ويدفعها إلى اتخاذ قرارات مؤذية، وتعيينات متسرعة، تتجاوز صلاحيات المدعي العام، ما يعني دخولها ساحة الأرض المحروقة.

لعله ليس من قبيل المصادفة أن نتنياهو ومبعوثيه يبذلون قصارى جهدهم لإضعاف السياسة العامة في إسرائيل، وحصر التعيينات الوزارية في الناس الثقات الخاصين بهم، مما يعني أن الإسرائيليين اجتازوا الحاجز الذي يفصل بين الدولة والفوضى، والنتيجة الماثلة أمام نواظرهم هي تفكُّك السلطة التنفيذية، ومعها تدهور المسؤولية العامة للدولة.

تؤكد كل هذه التطورات أن الإسرائيليين يعيشون مفترق طرق حرجاً، وفي انتخابات 2021 سيقررون ما إذا كانوا سيستمرون بالعيش في ظل نظام فاشل وفاسد أخلاقيّاً، أو إنهاء الأزمة السياسية الطويلة، وهذا المفترق يزداد حرجاً مع غياب العمق الآيديولوجي والمصداقية السياسية، وكلها مؤشرات تحمل بذور فشل لإسرائيل.

لا يتردد الإسرائيليون في القول إنهم يعيشون حالة من عدم اليقين المستمر، في ظل أزمة اقتصادية لا مثيل لها، وقرارات حكومية تفتقر إلى قاعدة بيانات، دون آراء مهنية، كل شيء يقوم على المصالح السياسية والحزبية، وألعاب الغرور المحرجة.

إن إجراء جولة انتخابية إسرائيلية رابعة خلال عامين دون إقرار ميزانية، يحمل كثيراً من الإشارات بشأن تقويض الثقة بالنظام السياسي، وإضعاف السلطتين التشريعية والقضائية، والإضرار بوسائل الإعلام، وفي هذه الحالة لا يترك بنيامين نتنياهو وراءه للإسرائيليين سوى الطوفان والأرض المحروقة والفوضى.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً