تابعنا
"المسجد الأقصى هو كل ما دار عليه السور بكل ما فيه من مبانٍ (كالجامع القبلي وقبة الصخرة) وقباب ومحاريب وسبل ومصليات فوق الأرض وتحت الأرض وساحات وأشجار، وبمساحة 144 دونماً"

"المسجد الأقصى هو كل ما دار عليه السور بكل ما فيه من مبانٍ (كالجامع القبلي وقبة الصخرة) وقباب ومحاريب وسبل ومصليات فوق الأرض وتحت الأرض وساحات وأشجار، وبمساحة 144 دونماً".

هذا التعريف الرسمي للمسجد الأقصى المبارك أخذ وقتاً طويلاً إلى أن اتخذ الشكل الرسمي بالنص عليه في اتفاقية العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس لحماية المسجد الأقصى عام 2013، والتي أكدت فيها السلطة الفلسطينية اعترافها بالوصاية الهاشمية الأردنية على المسجد الأقصى المبارك بكامل مساحته وكل ما فيه.

هذه الخطوة مثلت في ذلك الوقت رداً أردنياً فلسطينياً على محاولات فرض تقسيم ساحات المسجد الأقصى المبارك بين المسلمين واليهود، والتي عملت عليها حكومة نتنياهو متجاهلةً الاتفاقية الأردنية الفلسطينية، وأدت في خريف عام 2015 إلى انطلاق ما عرف بهبَّة السكاكين (وهي عمليات طعنٍ فردية انطلقت في القدس في شهر أكتوبر 2015).

ومع زيارة وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت (جون كيري) للمنطقة لتهدئة الأوضاع، حاول كيري في تفاهماته أن يعيد الأوضاع إلى النقطة السابقة لتلك الأحداث، فكان يستخدم في خطابه لفظاً مشتركاً هو (Temple Mount / Haram Al-Sharif) (جبل المعبد/الحرم الشريف)، ونص في تفاهماته على أن هذا الكيان المقصود في خطابه – أي (جبل المعبد/الحرم الشريف) – سيكون مفتوحاً لصلاة المسلمين، بينما يكون مفتوحاً لزيارة غير المسلمين (وليس الصلاة)، معتبراً أن تلك هي نقطة الوضع القائم Status quo التي تشكل المرجعية القانونية للمكان، علماً بأن هذا غير صحيح قانوناً، لأن لفظ الوضع القائم Status quo يعني العودة إلى ما قبل الاحتلال الإسرائيلي للمسجد، أي إلى الوضع القائم في يوم 4/6/1967، بمعنى أن يكون المسجد الأقصى المبارك بكامله للمسلمين فقط.

منذ ذلك الوقت، حرصت إدارة الأوقاف الأردنية على أن تربط دائماً اسم (المسجد الأقصى المبارك) باسم (الحرم الشريف) لتأكيد أن اللفظين هما اسمان لمسمى واحد هو المسجد الأقصى المبارك، وأن ما يسمى (الحرم الشريف) هو نفسه المسجد الأقصى بكامل مساحته.

وبالطبع فإن إسرائيل ترفض هذا التعريف للمسجد، حيث إن وزارة الخارجية الإسرائيلية وزعت في عام 2009 خطاباً على مندوبي الدول المختلفة في الأمم المتحدة توضح فيه رؤيتها للمسجد الأقصى المبارك، وتنص فيه على أن المسجد الأقصى هو مبنى صغير موجود في جنوب "جبل المعبد"، وأن قبة الصخرة ليست مسجداً ولكنها أثر إسلامي يقع في قلب "جبل المعبد"، بينما تعتبر بقية الساحات والمواقع شيئاً آخر غير المسجد الأقصى، واسمه الإسلامي "الحرم الشريف"، والذي يوازي في الرؤية الإسرائيلية "جبل المعبد".

وهذا التعريف، بالمناسبة، لا يزال موجوداً في الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإسرائيلية على شبكة الإنترنت. وكانت بلدية القدس الإسرائيلية قد قدمت في المسودة الرابعة لمخطط القدس الهيكلي 2020 – التي نشرت عام 2005 – خريطةً للأماكن المقدسة في البلدة القديمة بالقدس، اعتبرت فيها أن كامل الحي المسيحي في القدس مناطق مقدسة، بينما قصرت بالمقابل الأماكن المقدسة الإسلامية في المسجد الأقصى على الجامع القبلي وقبة الصخرة فقط، وأبقت بقية ساحات المسجد (الذي تسميه "جبل المعبد") منطقةً بيضاء، بما يعني أنها مجرد منطقة أثرية مفتوحة للجميع.

الأمور اختلفت إلى حد كبير عندما تعلق الأمر بالإدارة الأمريكية الحالية، فعندما وقف جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ليعلن ترتيبات ما يسمى (صفقة القرن) فيما يتعلق بالمسجد الأقصى المبارك، كان من الواضح أنه في ذلك كان يتجاوز الدور الأردني في المسجد، وينص على تعريفٍ مختلفٍ للمسجد الأقصى موافقٍ تماماً للرؤية الإسرائيلية، حيث يتضمن هذا التعريف اقتصار المسجد على مساحةٍ لا تتعدى أربعة دونمات فقط هي مساحة الجامع القِبلي الواقع في جنوب المسجد الأقصى المبارك.

ويختصر من المسجد حوالي 140 دونماً، يجعلها مكاناً مفتوحاً لصلاة اليهود تحت ذريعة أن هذه المساحة ليست المسجد الأقصى وإنما هي (الحرم الشريف)، ويضيف لذلك أنه – حسب ما يسمى خطة صفقة القرن – سيكون المسجد الأقصى (الذي هو في نظره الجامع القبلي فقط) مفتوحاً لصلاة المسلمين بحرية، بينما تكون الساحات الأخرى كافة مفتوحة لصلاة أبناء الديانات الأخرى، والمقصود هنا بالطبع هم اليهود لأنهم الوحيدون الذين يعتبرون المسجد الأقصى موقع "المعبد" حسب الرؤية اليهودية.

وما حصل في ذلك الخطاب يعني في الحقيقة الالتفاف على الاتفاقية الأردنية الفلسطينية، وتقزيم الدور الأردني في المسجد الأقصى المبارك ليختزل منه مساحة حوالي 140 دونماً، ويقصره فقط على الجامع القِبلي باعتباره هو فقط "المسجد الأقصى".

وهذا كان أحد أسباب رفض الأردن لهذه الصفقة ولهذه الرؤية، حيث فهم الأردن أن هذه الصفقة تريد سحب دوره في المسجد الأقصى المبارك، وهو الدور الذي يمثل أحد الركائز الأساسية لشرعية مؤسسة العرش في الأردن.

اللافت في الموضوع أن الإعلان عن اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل جاء موافقاً تماماً لرؤية جاريد كوشنر ورؤية إسرائيل للمسجد الأقصى المبارك. حيث نص الإعلان الثلاثي الإماراتي الإسرائيلي الأمريكي على أن هذا الاتفاق سيمنح المسلمين "حرية الوصول والعبادة إلى المسجد الأقصى"، بينما يمنح أبناء الديانات الأخرى، والمقصود بالدرجة الأولى الديانة اليهودية، حرية العبادة في بقية المساحات المقدسة لهم.

بعبارةٍ أخرى: وافقت الإمارات في هذا الاتفاق على قصر المسجد الأقصى المبارك على مبنى الجامع القبلي بمساحة 4 دونمات فقط، ووافقت على السماح لليهود بالصلاة في جميع المساحة الباقية من المسجد الأقصى – 140 دونماً – وهذا يعني انقلاباً كاملاً في الموقف الإماراتي الذي كان دائماً مسانداً للدور الأردني في المسجد الأقصى في عهد الشيخ زايد مؤسس الدولة.

ويمكن هنا أن يُفهَمَ من ذلك أن الإمارات اليوم تقدم نفسها بديلاً عن الأردن في الإشراف على المسجد الأقصى، لكن ضمن الرؤية الإسرائيلية المنقوصة لشكل المسجد ومساحته.

ولا يخفى على ذي عقلٍ أن إسرائيل اليوم في غاية السعادة لترشيح الإمارات لهذا الدور بديلاً عن الأردن، حيث إن أبو ظبي ترى نفسها اليوم قائدةً للعالم العربي من خلال تدخلاتها المستمرة في الشؤون الداخلية للدول العربية المختلفة كاليمن وليبيا والسودان، ومحاولاتها المستمرة التشويش على الدور التركي في المنطقة، ويبدو أن حلم الزعامة الذي يراود قادة الإمارات يصل إلى تقديم أنفسهم بديلاً للأردن في رعاية المسجد الأقصى الذي يمثل النقطة الأكثر سخونة في المنطقة على مدار العقود الطويلة لهذا الصراع.

لكنْ ثمة بالمقابل مؤشر على أن الرؤية الإماراتية هنا تفتقد لبعد النظر في قضية بهذا الحجم، حيث إن القيادة الإماراتية والإسرائيلية على حد سواء لا تزال تغفل العامل الأكثر أهمية على الأرض في القدس، وهو العامل البشري، وهذا أمر مفهوم في الحالة الإماراتية التي لا تحسب حساب الشعب في دولةٍ تفتقر لآليات الانتخاب والديمقراطية، ويسود فيها الحكم الشمولي الذي لا يرى حاجة لاستطلاع رأي الشعب في أي مسألة.

أما في الحالة الإسرائيلية التي تصر دائماً على التعامل باستعلاء مع الشعب الفلسطيني وتقع دائماً في الخطأ ذاته عندما تواجه حالة الردع الشعبي الجماعي في القدس، فإنه يبدو أنها بذلك تعول على سطحية معرفة الجانب الإماراتي بطبيعة مدينة القدس ومكوناتها الشعبية والدينية، وتظن أنه يمكنه نقل التجربة الإماراتية الشمولية ليسحبها على السكان المقدسيين في المسجد الأقصى فيما لو استلم دفة التعامل مع هذه القضية الحساسة، وهي مقامرة في غاية السطحية تتناسى رد الفعل المقدسي وتعول على "قدرة العرب على قمع العرب".

ويشهد لذلك التغريدة التي نشرها حساب (إسرائيل بالعربية) التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية الخميس 2/9/2020، حيث تروج تلك التغريدة أن المواطن الإماراتي سيتمكن قريباً من ركوب الطائرة من أبو ظبي إلى تل أبيب في 3 ساعات، ثم ركوب القطار إلى القدس في 30 دقيقة، ثم ركوب القطار الخفيف إلى باب العامود في 15 دقيقة، ثم المشي سيراً على الأقدام إلى المسجد الأقصى في 15 دقيقة، هكذا ببساطةٍ وسذاجةٍ تتناسى وجود إسرائيليين يحتقرون العرب في القطارات والمطارات، ومقدسيين يستقبلون المطبعين في القدس بالأحذية!

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

المسجد الأقصى
TRT عربي
الأكثر تداولاً