تابعنا
ما يحدث في مصر هذه الأيام، وما يتواصل أيضا في سياقات عربية أخرى، لا بد وأن يثير التساؤل المُلِحّ حول العلاقة الملتبسة بين الإعلام والسلطة، فهل باتت السلطة الرابعة مجرد "مكتب تحرير" تابع لبنيات الاستبداد والتسلُّط؟

وهل بات الكثيرون من "إعلاميي الثورة" مثل "عباد الشمس"، لا هَمَّ لهم سوى التهليل والتصفيق لما يصدر عن المُهَيمِنين؟ فهل أمسى الإعلام حليفاً استراتيجياً للدولة العميقة، ومُختصّاً في تزييف الوعي وقلب الحقائق؟

المثير في الأمر هو أن إعلاميي الريس، من أمثال عمرو أديب وأحمد موسى ووائل الأبراشي وغيرهم، كانوا قبلاً مع مبارك، ليستقلوا قطار الثورة، وينتصروا بعداً لمرسي، ليستقر بهم المطاف في حضن المؤسسة العسكرية، وهم بذلك لا يشكلون الاستثناء في سياق عربي بئيس استحال فيه المثقف والإعلامي والسياسي مجرد "أُجَرَاء" في مزادات السلطة الاستبدادية.

حماة الاستبداد

المتأمل للسعار الإعلامي الذي يتواصل حالياً في كثير من القنوات العربية، على درب التمجيد والتخوين، سيلاحظ كيف أن "حماة الاستبداد" من هؤلاء المحسوبين على مهنة المتاعب، لا يعدمون الوسيلة للسب والشتم والبكاء والدجل والتزييف والتزلف.

فكل شيء مباح في هذه البرامج، ولا أحد سيحاسبهم على التجاوزات المهنية، بل إنهم سيحصلون على مكافآت سخية جراء دفاعهم المستميت عن الرواية الرسمية الوحيدة.

من الطبيعي أن تكون للسلطة، أي سلطة، أذرعها الإعلامية، التي تستهدف إيصال صوتها الرسمي، ولهذا يفهم كيف أن الكثير من الدول تتوفر على وكالات رسمية للأنباء، فضلا عن قنوات وإذاعات وجرائد رسمية، لكن الطبيعي أيضا هو أن تسمح هذه السلطة بوجود أصوات أخرى، وألا تجعل من "المؤسسات الإعلامية" كافة ملحقات وتمثيليات معلنة ومضمرة للصوت الرسمي الأوحد، حينها ستكون مختلف جغرافيات الإعلام تحت السيطرة، وستكون النتيجة "تَمْوِيتاً" للحرية وانتهاكاً سافراً للديمقراطية.

يُفترض في الإعلامي المهني أن يكون منشغلاً أساساً بكشف المستور وتوعية الجمهور والإسهام النوعي في التغيير، فيما تجنح بنيات الاستبداد إلى معارضة هذا الهدف، فلا تريد منه إلا أن يكون "بوقاً" يردّد خطاباتها الوردية، ويسبّح بحمدها من بداية الإرسال إلى نهايته.

هنا تبدأ العلاقة في الالتباس، وتُختبر "صدقية" الإعلامي، فإن كان راغباً في التكسُّب مثل شعراء المدح، فله ما أراد، وإن كان مؤمناً بوجوب الفصل بين السلطات، فإن التهميش أو التهديد أو السجن مصيره ولو بعد حين.

لقد وعت الأنظمة الاستبدادية الأدوار التطويعية والتخديرية للإعلام منذ زمن بعيد، وعليه فإنها لم تفرط في تدبيرها من الباطن أو في العلن لهذا القطاع، والنتيجة إعلام موجه يتلاعب بالعقول والمصائر، يُدمن الخطاب التمجيدي الساخن، وفي أحايين قليلة، يُمارس نوعاً من النقد التعميمي البارد، لذَرّ الرماد في العيون وإعلان الانتماء لصف المُهَيْمَنِ عليهم.

ففي كثير من الأنساق العربية كانت حقيبة الإعلام بيد وزير الداخلية، في زواج مشبوه وغير مقبول بالمرة، كما أن أغلب الصحف والمؤسسات التلفزية والإذاعية الخاصة سيبقى تحت معطف السلطة، يأتمر بأوامرها وينتهي بنواهيها.

يشير بعض إعلاميي ما بعد الثورة، إلى أنهم لا يريدون صبّ المزيد من الزيت على النار، وأن فكرة الاستقرار هي ما يبرر دفاعهم عن الأنظمة الرسمية، فقد صرّح أحدهم قائلا: "لن ننتقد السلطة لأننا لا نريد أَرْجَحَةَ القارب"، تلافياً للغرق الجماعي، هكذا يبرّر انتقاله من "التصفيق" لمرسي إلى "التهليل" لزمن العسكر.

دعاة الاستقرار

ولكن ألا يرى دعاة الاستقرار من آل عباد الشمس، أنهم يستحيلون دعاةً للاستبداد؟ وأنهم يخونون آداب المهنة، عندما يبيعون أقلامهم وأصواتهم في مزادات السلطة؟

لقد صار الدفاع عن وضعية "الستاتيكو" المهمة الأكثر انتشاراً بين آل المتاعب/النعم في الوطن العربي، فقد غادرتنا الأقلام المزعجة، ليختنق المشهد بـ"نجوم" جدد يكتبون بالإبر على آماق العيون خوفا من إغضاب صانعي القرار. لقد ضاقت الفضائيات والجرائد بالكثير من شهود الزور، الذين لا يرف لهم جفن، وهم يسوقون الأكاذيب، ويعلنون أن ما يراه كل الناس لونا أسود هو أبيض ناصع البياض.

إن سياقاً جديداً بعد الربيع قد تشكل، وإن رؤى جديدة وقرارات قوية عُجنت بالحديد والنار قد صارت جاهزة للاستهلاك والتنفيذ، ولو كره الكارهون والعاشقون لهذا الوطن الممتد من الجرح إلى الجرح. لقد انطلق موسم تقليم الأظافر وقص~ الأجنحة من جديد، وبالطبع فالدور يكون بدءاً على الإعلام المستقلّ باعتباره المحرّك الأساسي لعامل التغيير والانشغال بهموم وآمال الهامش والمهمشين.

فكل "نص إعلامي" يختص في كشف الحقيقة وفي فضح المسكوت عنه، ويقطع بالتالي مع سياسات تلميع الصورة والتطبيل للسياسات الرسمية وامتهان لغة الخشب، يتم الاقتصاص منه بالحجب والمنع والتهديد والعنف، وذلك لأن بنيات الاستبداد لا تسمح إلا بتداول رواية وحيدة للتبجيل والخنوع، ولن تقبل إلا بخطوط تحريرية مرسومة على المقاس.

القوات الآيديولوجية المسلحة

فما العمل؟ هل نرفع الراية البيضاء، وننتمي إلى سجل "آكلي الشيبس" من جمهور الأشباح، ونصدّق ما يقوله عمرو أديب وغيره من نجوم "التالك شاو"؟ أم علينا أن نعتبر من قصة طائر الكولبري التي حدثنا عنها الصديق محمد منير الحجوجي صاحب كتاب "القوات الآيديولوجية المسلحة"، والذي يعتبر فيه هؤلاء المتلاعبين بالعقول بمثابة قوات عسكرية ناعمة متواطئة مع الكبار ضد مصلحة الشعب؟

تقول الحكاية/الدرس: "يُحكى أنه في غابة جميلة كانت تعيش حيوانات رائعة، كان كل شيء يسير عاديّاً جدّاً حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي اندلع فيه حريق هائل، بدأ يأتي على الأخضر و اليابس. فَطنت الحيوانات بسرعة إلى الكارثة وفَرَّتْ من الغابة إلا طائرا واحداً رفض ترك المكان، إنه طائر الكولبري، وهو طائر صغير جدا ولطيف جدّاً، كان بإمكان الحيوانات وهي خارج دائرة الخطر أن ترى ما كان يفعله الكولبري وهو على خط النار. لقد كان يطير بكل السرعة المعروفة عنه، نحو وادٍ صغير ليحمل نطف ماء ليلقي بها فوق اللهب المنتشر، كان الكولبري يعيد الكرة مرات كثيرة، وبأناقة شديدة.

وهو في قلب العملية، خاطبه تمساح من بعيد: عزيزي الكولبري، هل تعتقد أنك بهذه الكمية التافهة من الماء، التي تغامر بنفسك في سبيل نقلها إلى ساحة النار، يمكنك أن توقف شيئا؟ رد الكولبري: أعرف انه لا يمكن وقف زحف النار، لكني أقوم بحصتي من المسؤولية.

ذلكم ما نحتاج إليه اليوم لمواجهة إعلاميي عباد الشمس، من حماة الاستبداد، أن نقوم بحصتنا إسهاما في التغيير، ومواجهةً لهذه النار التي تحرق كل جميل فينا وفي أوطاننا المكلومة. لا خيار سوى الفعل وإن كان بسيطا، حتى تنخرس أصوات في مزادات السلطة، ويرتفع صوت الشعب عالياً من الماء إلى الماء.فلا بأس أن نتعلم من طائر الكولبري، وأن نقوم بدورنا في المواجهة لا الهروبية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

هتاف المتظاهرون المصريون بشعارات أثناء مشاركتهم في مظاهرة تطالب بإقالة الرئيس عبد الفتاح السيسي في وسط القاهرة في 20 سبتمبر 2019. (AFP)
TRT عربي
الأكثر تداولاً