العلاقات الإسرائيلية السودانية (AFP)
تابعنا

وربما تابع الكثيرون نمو العلاقة بين بعض هذه الدول كالإمارات والبحرين وتطورها بسرعة عبر سلسلة اتفاقات معلنة، فيما لم يلاحظ المتابعون وجود تطور لافت بالعلاقة السودانية-الإسرائيلية سوى في زيارات سريعة ذات طبيعة أمنية لمسؤولين إسرائيليين للخرطوم، فيما لم يُعلَن عن أي زيارة سودانية رسمية أو شعبية للطرف الآخر.

ومع أن السودان أعلن مشاركته يوم 14 الجاري في الاحتفال الرسمي بإعلان الاتفاق الإبراهيمي عبر سفيرها في الولايات المتحدة الأمريكية نور الدين ساتي فإن واقع العلاقة ما زال في حده الأدنى رغم من هذا الاختراق الكبير بإعلان التطبيع وعقد أول لقاء بين رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في أوغندا التي جرت فيها اللقاءات السرية بين الطرفين قبل إعلان العلاقة.

وعلى الرغم من إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد مؤخراً عن الحاجة إلى عقد اتفاقات مع السودان فإن هذا الإعلان لا يعدو أن يكون تذكيراً للدبلوماسية الإسرائيلية بأن هذا المسار متوقف أو جامد، وأنه يحتاج إلى مسار لتثبيته عبر سلسلة اتفاقات، وأن هذا الملف مهم، ولكنه لا يعني بالضرورة أنه يحظى بأولوية أو اهتمام زائد، ويمكن لنا أن نلخص سبب ذلك الجمود المتعلق بالطرفين في حقيقة الأمر، فالطرف الإسرائيلي كان يحتاج إلى أي نجاح دبلوماسي في اختراق حالة الحصار السياسي العربي المتمثل في رفض معظم الدول العربية الاعتراف بإسرائيل، وبالتالي فإن تحقيق هذا الاعتراف الذي تُوّج بلقاء أعلى مسؤول كان كافياً للاحتفاء وإعلان النجاح، ويبقى أيّ شيء بعد ذلك خاضعاً للمصالح.

وفي شأن السودان فإن الهشاشة السياسية والأمنية في السودان ووجوده في مرحلة انتقالية بعد إسقاط نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير يعدّ مدخلاً إشكاليّاً لا يمكن البناء عليه حتى يستقر النظام السياسي السوداني بانتخابات تشريعية ورئاسية تحمي سلطتها أيّ اتفاق، بخاصة أن إعلان التطبيع شهِد جدلاً سياسياً سودانياً حول صلاحية إعلان الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها دون وجود مظلة تشريعية.

كذلك فإن إسرائيل منفتحة أكثر على الدول العربية الغنية والمستقرة وتسعى إلى استثمار ربيع هذه العلاقة والاهتمام بتفاصيلها ومنع أي إشارات سالبة قد تعرقلها أو توقف زخمها، بينما ستكون العلاقة مع السودان مكلفة جداً بسبب الوضع الاقتصادي المأزوم في السودان، وستضطر إسرائيل إلى تقديم مساهمات ومساعدات مالية واقتصادية لدعم هذه العلاقة الوليدة، وهذا ليس وارداً في خططها، كذلك فإن سياستها واضحة في أنها ليست دولة محسنة خيرية ولا تدفع المال إلا فيما يعود عليها بمصلحة مباشرة تستحق الدفع.

كذلك فإن العلاقة التي افتتحتها المنظومة العسكرية السودانية ذات طبيعة أمنية، وكان أكثر ما يشغل هذه العلاقة هو الملف الأمني إذ كانت السياسة السودانية سابقاً تتبنى خطاً يدعم المقاومة الفلسطينية لوجستياً، كما كانت منفتحة سياسياً على هذه المقاومة، لكن منذ الإعلان عن التغيير الكبير في السودان فإن هذه العلاقة قد انقطعت وأغلقت الواجهات التمثيلية لها في الخرطوم، فيما كانت هذه العلاقة تعاني إشكالات حقيقية قبل سقوط النظام السابق بسنوات، وبالتالي فإن الثمرة الأمنية للعلاقة الإسرائيلية-السودانية ستتمثل في التعاون الأمني والاستخباري والتعاون في الصناعات الدفاعية والعسكرية وفي مربعات محدودة، ولكن الإشكال الكبير أن المنظومة الأمنية السودانية أخرجت عدداً كبيراً من الضباط الكبار من منظومتها عبر سلسلة إعفاءات أدت إلى ضعف قدرة المؤسسات الأمنية الإسرائيلية على تحقيق تواصل مثمر للتعاون في هذا المجال، خاصة أن رؤية الأمن والمخابرات السودانية وصلاحياتها قد تغيرت عما كانت عليه، كما لا تفتح المنظومات الأمنية والعسكرية عادة ملفاتها الخاصة لأي كيان أجنبيّ مهما بلغ التقارب السياسي، وهو الأمر الذي لم يحْدث بعد في العلاقة مع إسرائيل، كما تراعي السودان المصالح القومية الاستراتيجية المصرية في ملف العلاقة مع إسرائيل.

وهناك أمر آخر يتمثل في عناصر إعلان التطبيع الذي لم يُكشَف عن خصوصياته، واكتفى الإعلان بأنه جرى الاتفاق على فتح الأجواء السودانية للطائرات التجارية الإسرائيلية، وربما فإن أقصى ما تريده الدبلوماسية الإسرائيلية الآن قرار سوداني بالسماح بفتح سفارة إسرائيلية في الخرطوم حتى لو تأخر الافتتاح العمليّ والرسمي لهذه السفارة، وهو الأمر الذي لا تبدو السياسة السودانية حريصة عليه في الوقت الراهن؛ كما أن الإسرائليين حريصون على إنجاز ملف داخلي بالعلاقة وهو إبعاد اللاجئين السودانيين لديها -وهم بضعة آلاف- في أقرب فرصة، وهو الأمر الذي وافقت عليه السودان، لكن الإجراءات القانونية الإسرائيلية لم تنتهِ بعد من التعامل مع هذه القضية بعد رفض هؤلاء العودة إلى بلادهم.

في الجانب السوداني فإن المبادرة العسكرية السودانية بفتح العلاقة مع إسرائيل كانت تنبع من أمرين أساسيين: تسريع إجراءات العلاقة مع واشنطن بغرض رفع العقوبات الأمريكية الاقتصادية والسياسية والتشريعية عن السودان، ورفع العوائق التي تسببت بها هذه العقوبات، والأمر الثاني هو قطع الطريق على بعض شركاء الحكم في السودان للاستفراد بالعلاقة مع الإدارة الأمريكية بعيداً عن قوى أساسية فيه، والأمر الأول لم تتحرك فيه الدبلوماسية الإسرائيلية بما يرضي الطرف السوداني، إذ تحركت الملفات ببطء شديد، كما لم يتحقق الوعد الإسرائيلي بترتيب لقاء رئاسي بين الولايات المتحدة والسودان طيلة عهد ترمب، ويوجد شعور سوداني قويّ بأن الإسرائيليين لم يوفُوا بما وعدوا من حركة إيجابية وأن التطور البطيء بالعلاقة مع واشنطن حدث بشكل طبيعي نتيجة إعلان التطبيع فحسب، وتغير السياسة السودانية بالملفات التي كانت تعترض عليها واشنطن، بخاصة أن حواراً استراتيجياً أمريكياً-سودانياً كان قائماً نشطاً قبل سقوط النظام.

ولا يبدو السودان حريصاً على تطوير العلاقة أكثر من ذلك، فهو يفهم أنها بُنيت على تقدير سياسي حرج في ظرف انتقاليّ خاص، وأنها في غير ما أُسّست عليه تحمل عبئاً أمنيّاً وسياسياً داخلياً وخارجياً كبيراً، وأن السودان ليس في الأولويات الاستراتيجية الإسرائيلية، وأن إسرائيل ليست مستعدة لأن تقدم خبراتها الفنية للسودان بلا مقابل مُجزٍ، لا سيما أن هذه الخبرات يمارسها القطاع الخاص الإسرائيلي بالدرجة الأولى.

ولكن السودان حريص أيضاً على عدم إشعار الولايات المتحدة أنه متردد في ملف التطبيع ومتابعة العلاقة، كما يريد إعطاء الانطباع بأن تطوير هذا الملف مرحّل إلى ما بعد الانتخابات، وأنهم صنعوا الإنجاز الأكبر بفتح الطريق وإطفاء الإشارة الحمراء المانعة من العبور، كما لم تشعر الفئات السودانية التي كانت متحمسة للتطبيع بأيّ تفاعل إسرائيليّ معها، ولم تقدّم لها الجهات الإسرائيلية أي مبادرة لافتة رغم إعلان العديد من المبادرات السودانية من بعض الجهات والشخصيات المثيرة للجدل.

وفي العموم فإن جمود هذه العلاقة مرشح للاستمرار طيلة المرحلة الانتقالية السودانية، وشدة الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية السودانية، والأولويات المختلفة للسياسة الإسرائيلية الباحثة عن الدول الغنية والقوية والمستقرة والنافذة في المنطقة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً