تابعنا
المطلوب في النهاية، هو تأبيد وضع الاحتلال والاستيطان الصهيوني، ومنع إقامة دولة فلسطينية، ولا يهم أن تكون الطرائق المؤدية إلى هذه المآلات، عبر صفقة القرن، ومسلسل أم هارون وأخيراً الاتفاق الموسوم بـ"التاريخي" بين الإمارات وسلطات الاحتلال الإسرائيلي.

السياق أولاً وأخيراً، فلا شيء خارج السياق، ولا شيء يحدث بالصدفة في زمن البؤس والإفلاس السياسي، كل شيء مدبر ومبيت، وتحديداً في مستويات التطبيع والتركيع والتعبيد.

فالمطلوب في النهاية، هو تأبيد وضع الاحتلال والاستيطان الصهيوني، ومنع إقامة الدولة الفلسطينية، ولا يهم أن تكون الطرائق المؤدية إلى هذه المآلات، عبر صفقة القرن، ومسلسل أم هارون وأخيراً الاتفاق الموسوم بـ"التاريخي" بين الإمارات العربية المتحدة وسلطات الاحتلال الإسرائيلي.

لا يهم أن يكون المسلك خيانةً للقضية ومعاكسةً لإرادة الشعوب وتمريغاً لكرامة الأمة في الأرض، ولا حتى انقلاباً على كل القيم الحضارية. لا يهم ما دام الأمر صادراً عن ترمب الراعي الرسمي للتطبيع.

يظل التوقيت في متون وتصاريف السياسة، أكثر أهمية من القرارات والاتفاقات والتوضيبات ذاتها، فالمهندس السياسي الذي يتكلف بصناعة وتصريف القرار، ينتبه جيداً لزمن الإخراج والإعلان، إذ يحرص باستمرار على "انتهاز" الفرص وتوظيفها، في مساراتها الأزموية، للتمهيد والتبرير والشرعنة الممكنة للقرارات ذاتها، ومنه نفهم كيف اهتدى الثلاثي الأمريكي-الإماراتي- الإسرائيلي، إلى الإعلان عن "الاتفاق التاريخي" في ظل ظرفية دولية وإقليمية مفتوحة على التوتر والارتباك وسوء الأحوال السياسية والاجتماعية.

ففي سياق ملتبس ومأزوم، لم نلملم فيه بعد جراح بيروت الحزينة، ولم نستطع فيه فك "أحجية" كورونا، ولم نذق فيه بعد طعم السلام، في أكثر من بلد عربي. في هذا السياق المأزوم، يخرج علينا عرابو التطبيع باتفاق بين الإمارات والعدو الصهيوني، يقضي بتطبيع العلاقات وتبادل السفارات وتمتين الروابط الاقتصادية والسياسية والثقافية، يحدث ذلك كله في إبعاد وإلغاء تامّين لمصالح الشعب الفلسطيني المعني أولاً وأخيراً بالأمر.

فكما العادة، يشتغل العدو الصهيوني على "الزمنية" الملتبسة، حيث النكسة أفقاً ومَدًّا ومَدًى، ليغتال القضية الفلسطينية بدم بارد، وبدعم من الأشقاء العرب.

حدث ذلك في أكثر من مناسبة، بدءاً بوعد بلفور المشؤوم، ومروراً بحروب لم تقع، ولم تسفر إلا عن مزيد ذل وهوان، في سنوات 48 و67 و73 من القرن الفائت، وهو ما تكرس واقعياً باتفاقات ملغومة، اتخذت مسميات عدة (غزة أريحا أولاً، معاهدة السلام، صفقة القرن، والاتفاق التاريخي أخيراً)، ففي هذه السياقات كانت الكفة لصالح القوى الأمبريالية، وكانت السلطوية العربية في فائق تغولها وتحكمها، فيما الشعوب مغلوبة على أمرها، تعاني ويلات القمع والتنكيل والتفقير والتجهيل.

إنها زمنية التدمير التي يتم استغلالها جيداً من قبل عَرَّابِي السلام المزعوم، لتحريف التاريخ وتحوير القضية، ففي كل جرح عربي يشمخ الخراب، تختلف الصيغ لكن الدمار واحد، ما بين حرب بين الأشقاء/ الأعداء وسحل للشعوب ونهب لخيراتها، فلا السياسي يرفع اللاءات ولا المثقف يدين الوضع، ولا الداعية يغير المنكر، الكل بات مرتمياً في أحضان السلطة، راغباً في ودها ومستفيداً من نعيمها. فمن سيقول لا للتطبيع؟ من سيرفض اغتيال القضية؟ ومن سيعلن موت الكرامة العربية؟

فهل يمكن أن نتصور اتفاقاً بين الإمارات والعدو الصهيوني، خالياً من أي رسائل موجهة إلى بيروت وأنقرة وموسكو وطهران وباريس والرياض على الأقل؟

فكل هذه العواصم معنية بما يود "تشفيره" وإيضاحه الرئيس الأمريكي ترمب، تحت يافطة الاتفاق التاريخي للتطبيع، والذي ليس جديداً بأي حال من الأحوال، على اعتبار أن العلاقات السياسية والاقتصادية، كانت ولا زالت تجري إضماراً وإعلاناً، بين الشقيقة والعدو، تماماً كما هو الحال بالنسبة لعديد الدول العربية.

لنعترف بأن ما أقدمت عليه الإمارات كان متوقعاً، فقط كان هناك انتظار للسياق الكفيل بإعلان التطبيع، ولهذا ليس غريباً أن تبادر مصر وغيرها من الدول المُطبعة سراً وجهراً مع العدو الصهيوني، أن تبادر إلى تثمين الاتفاق، واعتباره لحظة فارقة في تاريخ الأمة العربية الإسلامية.

وليس غريباً أن يختار ترمب زمن كورونا وتفوق الدب الروسي في اختراع اللقاح، ليؤكد فارقية النسر الأمريكي، وتحكمه في الشرق الأوسط، وتركيعه للدول العربية، فترمب برعايته لهذا الاتفاق، وفي هذا الوقت بالضبط، يريد أن يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.

فهو من جهة يمارس نوعاً من الإلغاء الرمزي لزيارة ماكرون لبيروت، ويعلن لبوتين أنه المتحكم الأول في الشرق الأوسط والحوض المتوسطي، وفي الآن ذاته، يرفع من إيقاع "اللعب" مع السعودية، لمزيد من الاستغلال والاستنزاف، بمد اليد إلى الغريم الإماراتي الذي يتصارع معها على الريادة الإقليمية والعربية. وفي الآن ذاته، يوجه أكثر من رسالة إلى تركيا وإيران اللتين تصران على مواجهة البلطجة الدولية بمزيد من الأناة والصمود.

لم يكن مسلسل أم هارون الذي قدم للمشاهد العربي خلال الشهر الفضيل، إلا إيذاناً مباشراً بانتقالِ التطبيع من السر إلى العلن، ومن اللامرئي واللامهيكل إلى الرسمي والمؤطر بالاتفاقات التاريخية تحت رعاية البيت الأبيض، ولن يجد عرابو التطبيع أي حرج في التذكير بأن ما أقدموا عليه، هو لأجل مصلحة فلسطين والأمة العربية الإسلامية والعالم أجمع، وأن فجر السلام سينبلج، وأن نتنياهو لن يقدم بعد اليوم على قتل الأبرياء في فلسطين المحتلة.

ها نحن نعيش نكسة أخرى في زمنية الجائحة، نعيش "كورونا سياسية" تسرق منا الوطن، وتبيعنا في سوق النخاسة الدولية، عبيداً وإماء لعرّابي التطبيع، ولا حق لنا حتى في الصراخ والنحيب، ليس مطلوباً منا إلا أن نطبل ونردد مع السيسي وإعلامه، أن "الشجعان هم من يصنعون السلام"، ذلك ما ردده أنور السادات وهو يبيع القضية في منتجع كامب ديفيد، وتحت رعاية النسر الأمريكي طبعاً.

ما يؤكد أن السياق الهزائمي هو المنتج للخراب والخنوع، وهو الذي يختاره الثنائي الأمريكي/ الإسرائيلي، لتنفيذ الاتفاقات وتحريك أجندتها خارج منطق الوقائع والأشياء.

عندما تحاصر الشعوب وتستعيد الأنظمة سلطويتها، كما حدث في سياق الجائحة، تلجأ قوى التطبيع إلى معاكسة الإرادة الجماهيرية وتزييف الوعي واغتيال القضية، ففي عز القبح والعهر السياسي، تُرتكب أبشع جريمة في حق الشعب الفلسطيني، وفي عز واقعة"بيروتيشيما" على غرار هيروشيما، والتي لا يستبعد أن يكون للعدو الصهيوني يد فيها، من قريب أو بعيد، في ظل زمنية البشاعة والخراب، يفرح جيران بيروت باتفاق يبشر بعلاقات متينة بين الشقيق والعدو، بالرغم من أن الجرح لم ولن يندمل، فهناك على الأقل ما يناهز 300 ألف لبناني بدون مأوى بعد تفجير، ولن نقول انفجار، المرفأ، فضلاً عن نحو 6 آلاف جريح وخسائر تقدر بمليارات الدولارات.

إن ما يحدث اليوم من "مسخ سياسي" و"هوان عربي" يؤكد أن العدو الصهيوني وداعميه كافة من الأعداء والأشقاء، لا يريدون لفلسطين أن تصير دولة مستقلة، ولا يريدون للبنان والعراق واليمن وليبيا وسوريا وكل المواجع العربية أن تضمد جراحاتها وتستعيد عافيتها، ما يحدث اليوم، وللأسف الشديد، لا يريد للأمة العربية أن تنهض وتنصلح وتحقق شرطها التاريخي والحضاري بعيداً عن الطائفية والاحتراب والداعشية والتفقير و التسلط والاستبداد.

عندما يوقع أكثر من 40 ألف مواطن لبناني وثيقة تطالب الرئيس ماكرون بعودة الانتداب الفرنسي، فذلك دليل قاس ومؤلم، على أنها "وصلت للعظم" وأن المواطن العربي، بات مفضلاً للاستعمار الأجنبي بدلاً عن الاستعباد المحلي.

إنها وثيقة/ صرخة، تذكر بما قاله نزار قباني، في رسالة موجهة إلى جمال عبد الناصر، لما منع من الدخول إلى مصر، عقب نشره لقصيدة "هوامش على دفتر النكسة"، لقد قال بملء القلب المكسور: "إن كنت قد صرخت كل هذا الصراخ، فلأن الطعنة كانت من الخلف، ولأن مساحة الجرح كانت أكبر". فإن صرخ اليوم، اللبناني والفلسطيني واليمني وكل أبناء الوطن العربي، من الجرح إلى الجرح، فلأن الطعنة كانت فعلاً من الخلف، وبتوقيع الأشقاء قبل الغرباء. فافرحوا باتفاقكم التاريخي، فإن النصر آت، مهما تفننتم في التطبيع والتركيع.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً