تابعنا
إن الدعوة إلى السلم لا يجب أن تمر عبر تلميع الاستبداد، إذا كانت هذه الدعوات صادقة فلا بد أن تمر من خلال بوابة الحكم العادل والرشيد.

في الأسبوع الماضي، اختتمت دولة الإمارات العربية المتحدة منتداها السنوي الخامس لتعزيز السّلم في المجتمعات المسلمة، بحضور عددٍ من رجال الدين، والقادة الدينيين من مختلف المعتقدات، وصانعي السياسة العامة الغربيين.

ولم يَفُت على الكثيرين المفارقة في إقامة منتدىً للسلم في دولة الإمارات. فالإمارات عضوةٌ في تحالفٍ أدَّى إلى مجاعةٍ مستمرةٍ في اليمن لما يصل إلى 12 مليون شخص، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة، بخلاف اتِّهامها بكثيرٍ من جرائم الحرب.

تركَّزت معظم ردود الفعل على الإنترنت حول التعليقات غير المعقولة الصادرة عن الشيخ الأميركي الشهير حمزة يوسف، الذي -أثناء مديحه لالتزام دولة الإمارات بالتسامح- ذكر أنَّ "لديهم وزارةً للتسامح…إنَّهم ملتزمون بتحضُّر المجتمع".

كيف يمكن للشيخ حمزة يوسف ومعلِّمه عبد الله بن بيَّه أن يشعرا بهذا القدر من الراحة في التغنِّي بمديح الإمارات؟

توماس باركر

بالنسبة للكثيرين، لم يكن أقوى الجوانب الصادمة لهذا التصريح هو الإبهام أو التضليل الأورويلي في حد ذاته، بل الشخص الذي صدر عنه التصريح. (أورويلي نسبةً إلى الكاتب الأميركي جورج أورويل واللغة التي أوردها في روايته 1984، والتي تضمَّنت كلمات يُقصد منها معنىً يختلف عن معناها الأصلي أو يعاكسه).

فكيف يمكن للشيخ حمزة يوسف، وهو رجلٌ لم ينشأ الكثيرون منا على الاستماع له فقط، بل ونُكِنّ له كامل الاحترام، ومعلِّمه عبد الله بن بيَّه، وهو من أعلم علماء الإسلام، أن يشعرا بهذا القدر من الراحة في التغنِّي بمديح الإمارات؟.

الروابط السياسية

بالنسبة لكثيرٍ من الراغبين في إحسان الظنِّ، سيكون الافتراض التلقائيُّ هو الفصل بين مكانتهما كشخصيَّتَين دينيَّتين من ناحيةٍ، والسياسة من الناحية الأخرى. لكنّ في هذا إغفالاً للخبرة الطويلة جداً للشيخ بن بيَّه في مجال السياسة.

كان الشيخ عضواً في مجلس الوزراء واللجنة الدائمة لحزب الشعب الموريتاني -الحزب الحاكم آنذاك- لمدة ثماني سنوات. وبعد ذلك، تولَّى عدداً من المناصب، حتى وصل إلى مركز الوزير في ثلاث مناسباتٍ.

ويُعَد نجله، شيخنا بن بيه، شبلاً من ذاك الأسد، وهو الذي يدير اتصالات والده. وفي المنتدى الأخير، قدَّمته سيرته باعتباره سياسياً.

وفي حالة الشيخ ابن بيَّه على الأقل، يبدو أنَّ الحديث عن أفكاره السياسية لا يمكن فَصلُهُ عن سياق حياته: فهو شخصٌ ذو خبرةٍ عميقةٍ في السياسة، ولذلك فهو على درايةٍ كاملةٍ بتداعياتها على أرض الواقع.

جوهر ما يقوله ابن بيَّه هو أنَّ شعوب الشرق الأوسط غير مستعدة للديمقراطية ولو أطاعت حُكَّامها لما حدثت أي من الفوضى الحالية وسفك الدماء.

توماس باركر

إذا نظرنا إلى خطابه، نجد أنَّ معظمه مرتبطٌ بعالم ما بعد الربيع العربي، الأمر الذي يعطينا سياقاً لكثيرٍ من تصريحاته السياسية الأخيرة. إذ ركَّزت دعوات الشيخ ابن بيَّه على "السلام قبل العدالة"، والترويج لمبدأ "لا خروج على الحاكم" باعتباره القاعدة الأهم في كيفية إدارة العلاقات مع الحاكم.

وفي هذا المنتدى، نُقِل عن ابن بيَّه قوله "في المجتمعات غير المستعدة، تكون الدعوة للديمقراطية فعلياً دعوةً للحرب".

لو كان هذا التصريح جاء من ناقدٍ غربيٍّ، لقامت الدنيا ولم تقعد على نزعته الاستبدادية والاستشراقية، وما شابه.

إنَّ جوهر ما يقوله الشيخ هو أنَّ شعوب الشرق الأوسط لو كانت أدركت أنَّها غير مستعدَّةٍ للديمقراطية وأطاعت حُكَّامها الذين حكموها طويلاً، لما حدث أيٌّ من الفوضى الحالية وسفك الدماء.

وفي هذا إساءة فهمٍ واضحةٌ لأسباب ما يُسَمَّى بالربيع العربي، ويُضفِي شرعيةً دينيةً وقوةً على الثورات المضادة الخبيثة التي قامت بها النظم الاستبدادية التي تُعيد بالتدريج كتابة تاريخ هذه الانتفاضات وتُحكِم قبضتها على بلادها.

دعونا لا ننسى أنَّ ما نشهده الآن في المنطقة ليس مجرد حالةً من مطالبة الشعوب بالديمقراطية، بل هي ثمرة عقودٍ من القمع السياسي، والحكم الرديء، والنزعة التدخلية الغربية.

بعبارةٍ أخرى، إنَّ واجهة "الاستقرار" نفسها التي سبقت الربيع العربي، في ظل الانتهاكات الفادحة للسلطة والظلم، هي في حد ذاتها سبب عدم الاستقرار الذي يعمُّ المنطقة الآن.

لذا، فإنَّ "السِّلم" الذي يُقدِّمه هذا المنتدى هو شبيهٌ للغاية بـ"السلم" الذي تقدمه حليفة الإمارات والسعودية، إسرائيل، للفلسطينيين: سلمٌ مضلِّلٌ عنيفٌ.

في رؤية الشيخ حمزة يوسف، الإسلام السياسي متأثِّر بالماركسية؛ إذ يسعى كلاهما إلى يوتوبيا على الأرض.

توماس باركر

ويمكن استقاء تبرير هذا الأمر من أحد كتب الشيخ ابن بيَّه الوفيرة. إذ ترجم حمزة يوسف مؤخراً كتاب "The Culture of Terrorism: Tenets and Treatments" من خطابٍ أُلقِي بالعربية قبل أكثر من عقدٍ مضى.

يبدأ الكتاب بتأكيد أنَّ الإرهاب ظاهرةٌ معقَّدةٌ لها أسبابٌ كثيرةٌ، وسرعان ما يُحَدِّد السبب الرئيس للإرهاب: الأيديولوجيا.

فَصلُ السياسة عن الأخلاق

باختصارٍ، للأفكار تبعات قوية، والعنف يتولَّد عن الأفكار العنيفة. لكنَّ هذا يطرح السؤال الأزلي: ماذا جاء أولاً، الدجاجة أم البيضة؟

لهذا أهميةٌ خاصةٌ حين نتحدث عن دولٍ مثل سوريا والعراق، اللتين تعرَّضتا لفتراتٍ طويلةٍ من العنف. هل يَنتُج هذا العنف عن الأيديولوجيات العنيفة، أم أنَّ الأيديولوجيات العنيفة هي محصِّلة البيئة العنيفة؟

يوضِّح تحليل خُطَب الشيخَين وتصريحاتهما ما يقصدانه بالأيديولوجيا: الإسلام السياسي. في رؤية الشيخ حمزة يوسف، الإسلام السياسي متأثِّر بالماركسية؛ إذ يسعى كلاهما إلى يوتوبيا على الأرض. ويجادل بأنَّ المسلم الحق يعلم أنَّ يوتوبيته لا توجد إلا في الآخرة. وبحبس الأمر في النطاق الفكري، نكون بهذا معذورين عن الحديث عن السياسة تماماً.

بالطبع، هذا ملائمٌ جداً للسلطات القائمة. إذ يمكننا الآن مناقشة مخاطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ومساوئه دون وضع الأمر في سياق الغزو الأميركي للعراق.

هذا التركيز المهووس على الأيديولوجيا للتقليل من شأن الربيع العربي لا يُفسِّر فحسب تحالف الإمارات والسعودية مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بل يفسِّر أيضاً مغازلة الشيخين لتيار اليمين.

في تغريدةٍ بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري نشرها الناشط الحقوقي المصري محمد سلطان، علَّق على تكريم الشيخ ابن بيه لمفتي الديار المصرية في الجلسة الختامية للمنتدى قائلاً "صدَّق هذا المفتي على إعدام آلاف من الأبرياء، بمن فيهم والدي وأصدقائي، بسبب تهمٍ مُسَيَّسةٍ مُلفَّقةٍ. تعزيز السلم والتسامح عبر القمع والاستبداد. من الطبيعي بالتأكيد أن تكون الإمارات هي الموقع الذي اختاروه لمنحه تلك الجائزة".

بالنسبة للإمارات والسعودية، إذا كان كسب دعم الغرب معناه التغاضي عن الإسلاموفوبيا، فإنَّ التضحية بالمسلمين في الدول الغربية لن يكون إلا مجرد فكرة مُستدرَكة.

توماس باركر

وفي المنتدى الأخير، لم تكن سارة خان، وهي رئيسة لجنة مكافحة التطرف البريطانية والمؤيدة المعروفة لـ "سياسة المنع" -التي تدفع معلِّمي المدارس لتقصِّي أمارات "التطرف" بين الأطفال- ضمن الحضور فحسب، بل ومُنِحت جائزةً نظير أعمالها.

إنَّها سلسلةٌ من المواقف السياسية الغريبة التي توضِّح حقيقة العالِمَين. على سبيل المثال، أشار حمزة يوسف إلى ترامب باعتباره "خادماً للرب"، ومع ذلك لم يتحدَّث مطلقاً على الملأ عن حظر سفر المسلمين، الذي سارعت الإمارات بتأييده.

لو كانت الإمارات والسعودية وتيار اليمين ينتقدون مجرد الإسلام السياسي، لكان هذا أمراً مقبولاً، ولكن في أغلب الأحيان يصوِّرونه على أنَّه "البعبع"المتواري خلف كل زاويةٍ، وكثيراً ما يكون هذا بهدف الترويج لمزيدٍ من القوانين القمعية أو الحروب أو التسييسات الأمنية.

على الجانب الآخر، غول "الإسلاميين" هو ما يُستَخدَم لتبرير الانتهاكات المعادية للإسلام (الإسلاموفوبيا) في الغرب. وبالنسبة للإمارات والسعودية، إذا كان كسب دعم الغرب معناه التغاضي عن الإسلاموفوبيا أو العنصرية، فإنَّ التضحية بالمسلمين في الدول الغربية لن يكون إلا مجرد فكرة مُستدرَكة.

في عام 2014، صنَّفت الإمارات مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (CAIR)، وهو منظمةٌ تقدّم دعماً قانونياً للمسلمين الذين يواجهون الإسلاموفوبيا، أحياناً من الحكومة نفسها، باعتباره تنظيماً إرهابياً.

وقد حذا السيناتور الأميركي تيد كروز حذوهم، فحاول في عدة مناسباتٍ تقديم قانونٍ لتجريم جماعة الإخوان المسلمين وفي الوقت نفسه توضيح أنَّ مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية، إلى جانب منظمات إسلامية مقبولة أخرى، تندرج تحت هذا التصنيف.

أنا متفهمٌ تماماً للصعوبة التي يجدها الكثيرون في تقبُّل هذا الحديث من عالِمين كهذين. فالمسلمون يُبجِّلون علماءهم تبجيلاً كبيراً جداً، ويعتبرونهم ورثة الأنبياء. لذا نريد دوماً أن نحسن الظن فيهم. هذه سمةٌ نبيلةٌ. لكن في نهاية المطاف، العلاقة بين العلماء وعامة المسلمين هي مجرد "علاقة".

ومن علامات العلاقات الصحية وجود الحدود والمساءلة. وإذا لم تكن حملة لتحسين صورة حكومةٍ مستبدَّةٍ تُجوِّع حالياً 12 مليون شخص ليست هي الحد الذي نرسم عنده خطاً أحمر، فأين نرسمه إذاً؟

وفي حين يبدو أنَّ الأفكار السياسة للشيخ توحي بأنَّ السلم لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الاستبداد، فإنَّ كتاب عبد الله بن بيه يقدِّم لنا بديلاً.

ففي الصفحة العاشرة، يروي قصةً لخامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، الذي حين سمع بثورة الخوارج التي باتت سيئة السمعة في وقتنا الحالي، كتب إلى واليه قائلاً "أخمد فتنتهم بالعدل".

وإذا كان المشاركون في هذا المنتدى بالفعل صادقين في نواياهم بالدعوة إلى السلم وإنهاء سفك الدماء في المنطقة، بدلاً من حملات تحسين صورة المستبدين باهظة التكلفة، فينبغي لهم أن يتولَّوا مهمة المناداة بالعدل والحكم الرشيد بصورة متسقة في كل أفعالهم.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً