عراك بين أفراد من الشرطة الألمانية وبين متظاهرين منددين بسياسة الإغلاق  (Christoph Soeder/AP)
تابعنا

فليست الجائحة وحدها التي أنتجت واقعاً من الخوف واللاثقة في المستقبل، وإنما الأمر متصل بتراكمات سوسيوتاريخية، انتصر فيها الاقتصاد على الفكر، وتجذر فيها منطق السوق والاحتراب ضد دعاوي الإنسانية والعيش المشترك.

لقد انتقلنا تاريخياً من اقتصاد الندرة إلى اقتصاد الخوف، ففي المستوى الأول يصير احتكار المواد الأساسية والأولية وكذا التحكم في سلاسل الإنتاج، مدخلاً رئيسياً لإنتاج الثروة وترسيخ السلط والتفاوتات.

أما في مستوى اقتصاد الخوف فإن تعميم الرعب وامتلاك المعلومة وتقدير مستوى الخطر هو، بالضبط، ما يسمح بمراكمة الأرباح وتحقيق مزيد من الهيمنة، لتقرير أحوال ومصائر الشعوب والحكومات.

وذلكم بالضبط ما لاح بقوة في كل الحروب التي استهدفت العراق وأفغانستان واليمن وليبيا، والتي كانت تتم باسم "الحرب على الإرهاب" أو "استعادة الشرعية" أو "مواجهة الشر"، فاقتصاد الخوف هو الذي كان يؤسس التدخلات ويبرر التقسيمات والإفادات من "كعكة الخوف".

نفس الأمر، وإن كان بصيغ أكثر تطوراً، نلاحظه اليوم في تدبير جائحة كورونا، فلا شيء يعلو على "تمارين" التخويف والترهيب، اتصالاً بالفيروس التاجي وسلالاته المتحورة، وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية، وكذا بلقاحاته المتعددة الجنسيات، والتي كانت ولا زالت موضع تشكيك أو استعادة ثقة، بما يدل على أن الهدف هو تجذير ثقافة الخوف واللايقين، والتي تزيد من أرباح الشركات التي تتوكأ في اشتغالها على التلاعب بمصائر الإنسانية.

دليلنا في ذلك أن الحروب ليست إلا صناعة بشرية بئيسة، تفيد منها أساساً إمبراطوريات السلاح، التي يظل همها الأساسي هو تدعيم وتوطين اقتصاد الخوف، عبر زرع بؤر التوتر والاحتراب في أكثر من مكان.

وهو ما يصدق أيضاً على صناعة الفيروسات والجوائح والأزمات الاقتصادية، والتي لن تتمكن من رفع أرقام معاملاتها من دون "تلاعب" بالحاضر ومصادرة للمستقبل.

ولنتذكر في هذا الصدد، كيف أن التجارة التي حققت أعلى رواج خلال الجائحة كانت متصلة بالخوف على فقدان الحياة والعمل والأجر، وعليه فقد كانت المعقمات والأدوية والأجهزة المعلوماتية والهواتف النقالة، أكثر المواد والأدوات مبيعاً خلال الجائحة وبأسعار فوق العادة، حققت للمستثمرين في "اقتصاد الخوف" أرباحاً خيالية.

ومع ذلك، فلا بد من الانتباه إلى أن أباطرة اقتصاد الخوف الذين يتحكمون اليوم في مصير العالم ويتلاعبون به، لا تهمهم الأرباح وحسب، بل يستهدفون بنيات المجتمعات، تفكيكاً وتجريفاً وتحويراً.

فما حدث في العراق أو أفغانستان لم ينتهِ عند حدود إشاعة الخوف واللاثقة في المستقبل، فضلاً عن نهب الخيرات واغتصاب المستقبل، ولكنه انتهى، وللأسف الشديد، إلى "بلقنة" المجال والإنسان، وتذرير المجتمع، بما يفضي إلى مزيد من "الهويات/الأنانيات" القاتلة والحروب "الإيديودينية" الماحقة.

وبالطبع فإن صناع اقتصاد الخوف والتفكيك، لا يقدمون أنفسهم إلا كأصحاب أطروحة لإنقاذ العالم وإقرار السلم ومحاربة الشر والإرهاب والتصدي للجوائح والأزمات، فيما الواقع يؤكد "نقيض الأطروحة"، وأن الغاية القصوى من كل هذه الفواعل والهوامل، هي تجريف المجتمعات وتعبيدها، عن طريق إغراقها في حروب داخلية وخارجية على أساس العرق والطائفة والمصلحة، وهلم جراً من أسباب واهية الحجة والإمكان.

في دراسة علمية عن "الحلم" الأول للشباب العربي، كان الجواب المتردد بنسب عالية، هو الهجرة إلى الخارج، مع التوكيد على عدم العودة، فما الذي أنتج شباباً ساخطاً على وطنه، ينتظر أول فرصة للهروب وحجز تذكرة اللاعودة؟

إنه الإحساس باللاجدوى واللاانتماء ما يوجب هذا الاختيار، وهو نتاج طبيعي لسنوات من الإهدار والحصر والتهميش والإقصاء، والتي جعلت الكثيرين "مواطنين" من درجة ثانية ينتظرون فرصة للانتقام، سواء بالتطرف الإيديوديني أو الشغب الرياضي أو الإجرام والإدمان أو حتى الهروب و البحث عن عسل الضفة الأخرى ضداً على "قطران الوطن".

ليس هذا المثال إلا دليلاً آخر على نجاح اقتصاد الخوف في تفريغ المجتمعات من "فرصتها الديمغرافية"، التي من المفروض أن تكون عنصر بناء وتغيير، فإذا بها، وعن طريق تحالف الاستبداديات العربية مع أباطرة هذا الاقتصاد، تتحول إلى أداة هدم وتدمير واغتيال للمستقبل. أي نعم إننا نتوفر على "إمكان ديمغرافي" مهم من الماء إلى الماء، لكنه بات "مهاجراً" رمزياً إلى الهناك، ومنفصلاً عن هموم الاستنهاض والتغيير المحلي، فلا حلم له سوى الالتحاق بماكينة اقتصاد الخوف ومن غير أن يدري.

لا يكتفي اقتصاد الخوف بانتهاب الجيوب والخيرات، ولكنه يفكك المجتمعات ويسرق منها مستقبلها، ويرهن حاضرها في جحيم من التطرف والتخلف والجهل والمرض والحروب، فالتدبير الإيديواقتصادي للحرب على الإرهاب، لم ينته عند حدود إعادة ترتيب العلائق مع القاعدة أو داعش، وإنما امتد إلى التدخل في سياسات الدول وتفكيك مجتمعاتها، وهو ما نلاحظه اليوم في استراتيجيات توزيع لقاح كورونا، وتنفيذ سياسة "إعادة الضبط الكبرى" لتفاصيل العالم الجديد.

فهل يبدو طبيعياً، وفي ظل جائحة أنهكت العالم، أن يحدث التأخر في تطعيم شعوب الدول الفقيرة، بسبب براءات الاختراع واحتكارية الدواء؟ أي معنى لشعارات المشترك الإنساني يمكن ترويجها بعد الآن، وتحديداً في الوقت الذي ينادي فيه الاتحاد الأوروبي بتطعيم أوروبا أولاً، وليذهب الآخرون إلى الجحيم؟

المؤكد أن اقتصاد الخوف لن يتوقف، وأن تفكيك المجتمعات الهشة سيتواصل، ولن يعدم أباطرة هذا الاقتصاد الوسيلة لإيجاد المزيد من الحيل والطرائق لاستكمال ما بدأ منذ انتهاء الحرب الباردة على الأقل، فالسلالات المتحورة يمكن أن تفي بالغرض، كما أن الحروب الإيديودينية قادرة على تفكيك المجتمعات ورفع الإيرادات، فلن تنتهي اللعبة، قد يتغير اللاعبون، وقد تتغير ميادين ومواد وأدوات اللعب، خصوصاً أن "سياق المزيد" هو الذي يؤسس ويوجب اللعب مع الكبار. وما علينا إلا أن ننتظر مزيداً من المزيد.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً