تابعنا
يعود إدوارد سنودين إلى الواجهة من جديد مع صدور كتابه بعنوان "سجل دائم" ليعيد تسليط الضوء على سياسة التجسس التي تتبعها الحكومات على شعوبها في انتهاك للخصوصية الفردية.

ما كتبه الروائي جورج أورويل في روايته 1984 عن مراقبة أجهزة المخابرات أو ما أسماه بالأخ الأكبر، لحركات المواطنين وسكناتهم، لا يرقى إلى ما بلغته الرقابة مع الثورة الرقمية. الواقع أبعد مدى من الخيال.

عمليات التتبع أو اقتفاء الأثر، مع وسائل الاتصال الحديثة شاملة وسهلة. من خلال الهاتف الذكي، والكومبيوتر وبطاقات الائتمان والأسفار، وحجوزات الفنادق وكاميرات المراقبة، والحساب البنكي، والمعاملات المالية. 

والطريف أن وسائل الاتصال يمكن أن تتحول بسهولة إلى وسائل للتصنت، وضبط مكان التموقع أو التواجد. فالهاتف الذكي ليس بالضرورة أداة في خدمة الشخص بل كذلك في خدمة الأجهزة الأمنية.

الثورة الرقمية التي سهّلت الاتصال والتواصل، غشيت المجال الخاص للأفراد، وحدّت من حرياتهم، رغم اللغط حول توسيع الحريات والضمانات القانونية لذلك، بل إنها أثّرت أيضا على بنية الدول وعلاقاتها. لم تعد الدولة محتكرة لأسرارها، فيمكن لما هو سر، أو تحت غطاء السرية، أن ينفلت بنقرة، أو بطاقة صغيرة، تحوي مئات الألاف من الملفات كما وقع مع ويكيليكس.

في يونيه 2013 نشرت جريدة الجارديان البريطانية في موقعها تسريبات عن الوكالة الأمريكية الوطنية (National Security Agency (NSA) التابعة للوكالة الأمريكية، تتضمن معطيات خاصة عن الأشخاص أو ما يسمى بمراقبة الجماهير، من خلال الإنترنيت وشركات الخدمة الكبرى، التي قد تكون متواطئة، أو تحت ضغط الوكالة. كان وراء تلك التسريبات عضو مخابرات أمريكي يدعى إدوارد سنودن. المعطيات التي أبان عنها، حينها، نُعتت بالعالم الأورولي، نسبة للكاتب جورج أورويل.

كان من المفترض أن يقوم حينها نقاش حول مدى شرعية تغلغل الوكالة في المعطيات الخاصة بالأفراد، ولكن الفقاقيع التي تلت ذلك من استنكار وبعض النقاشات في بعض الدول الغربية، ما لبثت أن خفتت. لم تتوقف المراقبة عبر الأنترنيت، أو ما يسمى بمراقبة الجماهير، ولم يتمم تفكيك وكالة الأمن القومي الأمريكية. 

يعود سنودن إلى واجهة الأحداث بمناسبة صدور كتاب له بتاريخ 17 من سبتمبر ، "سجل دائم"، ومن ثمة طرح موضوع مراقبة الجماهير عبر الأنترنيت ومدى شرعية تلك المراقبة. اختار سنودن يوم عيد وطني في الولايات المتحدة كي يُصدر كتابه، وهو عيد الدستور والمواطنة، ليوحي أن كلا من الدستور الذي يحمي الفرد، والمواطنة التي تمنحه حقوقا وتفرض عليه واجبات، كليهما أصبحا مهددين، من خلال نزوع الولايات المتحدة على تقصي خاصية الأشخاص، أو مراقبة الجماهير.

يبدأ الكتاب بهذا الشعور الساذج المستشري من أن حكومة بلاده تستنكف عما يسميه بمراقبة الجماهير. أي قول يخالف هذا الزعم كان يُنعت بالتآمر. إلى أن تبدت له الحقيقة في قاعدة كان يشتغل فيها بجزر هواي، تابعه للوكالة الوطنية للأمن، وهي أحد الأذرع الخاصة التابعة للوكالة المركزية للمخابرات، المعروفة بحروفها س أي أي. 

حينها قر قراره أن يُحمّل المعلومات في بطاقة صغيرة شبيهة بتلك التي تستعمل في الهاتف المحمول المعروفة بحروفها الأولى (SD) (Seccure Digital). وهي بطاقة لا يمكن ضبطها بوسائل الرصد. هي التي فضحت أسرار مراقبة الجماهير سنة 2013.

طار بعدها إلى هون كونغ، ومنها قر أن يتوجه إلى الإكوادور، كي يطلب اللجوء السياسي، وأثناء توقفه في موسكو، كان قد صدر قرار إلغاء جاوز سفره الأمريكي، مما حد من حرية تحركه، وأبقاه، منذ ست سنوات في موسكو، رهين "ضيافة" روسيا وأجهزتها.

هناك محطات أساسية في فهم مسار هذا العبقري الذي كان العالم الافتراضي نافذته على العالم، والذي لم يحصل على تعليم أكاديمي، ولكنه فتح عينيه على الثورة الرقمية وانغمر فيها. صادف ذلك صدمة 11 سبتمبر حين كانت الولايات المتحدة في حاجة إلى معرفة كل شيء عن أعدائها المحتملين، واستباق كل شيء.

كان إدوارد سنودن من هؤلاء الذين اشتغلوا في الوكالة الوطنية للأمن، وهي أحد الأذرع الخاصة، وتدرج في مراتبها، واشتغل في شركات ظاهرها أنه خاصة، ولكنها مرتبطة بالوكالة المركزية الأمن. عاش هذا الفتى حرب 2003 على العراق، مثلما عاش ملابسات الحرب على الإرهاب، وهو في خدمة بلده. 

كان يتماهى مع توجهات بلاده، إلى أن اكتشف أن حكومة بلاده، أو أجهزتها الأمنية لا تتورع في مراقبة ما يسمى بالجماهير، واكتشف كذلك أن البرامج التي تبيعها الولايات المتحدة لأصدقائهما هي وسائل كذلك للمراقبة.

السؤال الذي يطرحه الكتاب، بغض النظر عن السياق المرتبط بالولايات المتحدة، هو إلى أي حد يمكن للدولة من خلال أجهزتها الأمنية،أن تعتدي على حياة الفرد الخاصة؟ الهاجس الأمني المهين في الولايات المتحدة، وفي العالم، بعد 11 سبتمبر جعل الأجهزة الأمنية في منأى عن أي رقابة ديمقراطية، ولذلك لا تتورع الأجهزة فى اقتحام المجالات الخاصة للأفراد. 

كل اقتحام في السابق لهذه المجالات كان يتم بإذن قضائي. لكن ليس هناك نظام أمني في العالم، بعد سياق 11 سبتمبر وخطر الإرهاب المحدق، ينتظر إذن القضاء بالتصنت والتتبع. لم يعد المبدأ "كل شخص بريء إلى أن تثبت براءته" بل العكس هو القائم : كل شخص متهم حتى تثبت إدانته.

من المؤكد كذلك أن المراقبة التي تقوم بها مختلف الأجهزة، تحد كذلك من إمكانات التستر الذي قد تقوم به بعض الحكومات. فقبل سنة، غاب المرحوم جمال الخاشقجي، ولكن وسائل الرصد الحديثة كشفت الجريمة، ولم يعد ممكنا التستر عنها، على خلاف ما وقع للمعارض المغربي المهدي بن بركة الذي ذهب دمه هدرا في غياب الوسائل الحديثة للرصد.

لكن هذا لا يعفي من أسئلة ذات طابع سياسي وحقوقي وفلسفي. إلى أي حد يمكن أن تذهب وسائل الرصد في مراقبة الجماهير فيما هو خاص ؟ وما هي الضمانات القانونية لحماية خاصيتهم ؟ وهل هناك ضوابط قانونية لمراقبة عمل الأجهزة ؟ ما هي الضمانات لعدم استعمال ما هو من خاصية الأفراد وحميميتهم ومجالهم المحفوظ ؟ وهل الاعتبارات الأمنية من شأنها أن تضحي بالحرية ؟

يعيد سنودن بإصدار كتابه طرح القضايا الحساسة حول العلاقة ما بين أمن الدولة والمواطنين، وحفظ حرياتهم من أي تطاول، من جهة أخرى.

ولكن هل يكفي أن يُترك الأمر "لأريحية" الأجهزة وإرادتها ؟ وإلى متى تظل الأجهزة الأمنية في منأى عن أي مراقبة شعبية، إما من خلال البرلمان، أو الصحافة.

الموضوع لا يهم الولايات المتحدة وحدها طبعا، ولا ينبغي من أجل التصدي للإرهاب أن يكون ذريعة للتطاول على حريات الأشخاص وحقوقهم فيما يخص خصوصيتهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

نشر كتابه "السجل الدائم" من قبل إدوارد سنودن ، موظف سابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية. (AA)
TRT عربي
الأكثر تداولاً