تابعنا
مع صور الدمار الذي حلّ ببيروت، والكثير من العواصم العربية من العراق إلى دمشق فطرابلس وصنعاء والخرطوم، يبرز الأدب في لحظة عاصفة محاولاً تحدي الواقع، والكتابة عن الموت في زمن الموت.

في مارس/آذار 2017 حاصر محتجون المنطقة الخضراء شديدة التحصين في بغداد، والتي تحوي مقرّات الحكومة والبرلمان وبعض السفارات المهمة كسفارتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

كان المحتجون المدعومون من الصدر مملوئين بالغضب على تأخر حكومة العبادي في إجراء الإصلاحات الجذرية، ولا يجدون في الحرس وأفراد القوات الأمنية أي ممانعة، فهم متعاطفون مع مطالبهم.

كنت وقتها أكتب في المسوّدة الأخيرة من روايتي "باب الطباشير"، وللمفارقة فإني كنت أعيد كتابة وتحسين ذلك الفصل الذي فيه أحداث مشابهة. لقد كتبت عن عالم موازٍ حيث يحاصر المحتجون المنطقة الخضراء ويهددون باقتحامها، ولم أكن أتخيّل أن هذا المشهد سيجري في الواقع قبل أن أنشر الرواية.

ـ إذا دخل المحتجون المنطقة الخضراء سيخربون روايتي!

قلت مازحاً لبعض الأصدقاء، ونحن نشرب الشاي ذات مساء في مقهى إرخيته في حيّ الكرادة. وبعضهم صدّق أن هذا الاقتحام المفترض سيخرّب الرواية فعلاً. ثم لم يمض وقتٌ طويل، حين كنت أنهي مراجعتي للرواية، حتى اقتحم المحتجون فعلاً أسوار المنطقة الخضراء ودخلوا مكاتب الحكومة والبرلمان، وهرب من هرب من المسؤولين، في مارس/آذار من نفس السنة. ولكن لم يحدث شيء أكثر، ولم يتغيّر شيء على أرض الواقع. غادر المحتجون وعادت الحكومة إلى عملها السابق، وكأن ما حدث لم يكن سوى تخيّلات سطّرتها في روايتي.

ولكن، هل يخرّب الواقع وأحداثه مسارات الأدب حقاً؟

في حوار قديم مع مجلة التضامن سأل أحد الصحفيين الروائي اللبناني إلياس خوري عن سبب عودته من باريس إلى بيروت في أثناء الاجتياح الإسرائيلي في 1982، فأجاب بأنه كان يشعر بأنها أوقات تاريخية، وأنه يحتاج أن يعايش هذه التجربة المصيرية بالنسبة إلى اللبنانيين جميعاً.

ـ ولكن لماذا تأخرت في الكتابة عن هذه التجربة سنوات طويلة؟
سأل الصحفي فأجاب خوري:

ـ لأننا لا نستطيع أن نكتب عن الموت ونحن نموته!

كان جواباً أخّاذاً وموحياً، وفي الحقيقة كان أشبه بالتفسير المريح لصعوبة أن يجاري الأدب الواقع ويلاحق أحداثه المتسارعة.

غير أننا سنرى لبنانياً آخر يجيب عن سؤال إلياس خوري، وهو الروائي ربيع جابر. حيث كتب الأخير رواية "تقرير ميليس" التي نشرها في 2005، عن حادثة مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في ربيع السنة نفسها 2005، أما ميليس فهو المدعي العام الألماني ديتليف ميليس الذي انتدبته الأمم المتحدة للتحقيق الأممي في مقتل رئيس الوزراء.

لقد كتب ربيع جابر رواية عن حدث ما زال طازجاً وما زال مؤثراً في الحياة اليومية اللبنانية، وكأنه يخالف بشكل صريح نصيحة مواطنه إلياس خوري. لقد كتب جابر رواية عن الموت الذي كان يموته!

بالنسبة لي قد يكون الأمر متعلقاً بشيء أبعد وأعمق؛ قدرتك على نسج وهم شخصي يساعدك على الكتابة. لقد تولّدت فكرة رواية "فرانكشتاين في بغداد" في منتصف عام 2008. حينما كانت المفخخات تضرب بغداد بأعداد كبيرة، وهناك مئة جثة تقريباً مجهولة الهوية يصحو الأهالي في المدينة عليها كلّ يوم.

بقيت أكتب في المسوّدة الأولى بشكل متقطع لوقت طويل، ثم بعد عام 2010 هدأت الأجواء نسبياً. لم يتوقف الموت ولكن صار هناك "وهم" بأن الأمور ذاهبة إلى التحسّن.

في السنتين اللاحقتين حتى مطلع عام 2013 كان "الوهم" يتعزّز بأننا غادرنا تلك التجربة المريرة التي عمادها الاحتراب الأهلي والصراع الطائفي، وأننا صرنا أمام مرحلة جديدة، رغم أن الموت لم يتوقف بعد، والمفخخات ما زالت تضرب بغداد، ولكن ليس كلّ يوم وإنما بين حين وآخر!

تحت ظل هذا الوهم المفيد كنت أكتب مراجعة أخلاقية قاسية لما فعلناه بأنفسنا. أدوّن هذه التجربة البشعة حتى لا ننساها، وكأننا سنغادرها فعلاً. كنت أعتقد، وما زلت، أن تحمّل المسؤولية الأخلاقية من قبل الجميع هو البوابة لمغادرة هذا الماضي الصعب والمؤلم.

أما البقاء في التحصنات والمتاريس نفسها، والادعاء بأن الآخر هو المجرم ونحن الأبرياء، فهذا يجعل الحرب الأهلية راقدة تحت السطح لا أكثر، وتنتظر أي سبب لتندلع من جديد.

نشرت الرواية في منتصف 2013، ثم في العام اللاحق حصلت على الجائزة الدولية للرواية العربية "البوكر العربية"، وبعد فوزي ببضعة أشهر لا أكثر دخلت داعش الموصل، ثم أسقطت ثلث العراق بيدها، لندخل في دوّامة جديدة لم يكن أحدُ يتخيّل أنها ممكنة.

كان مثيراً أن تُستخدم الرواية لتفسير الصراع الجديد، ثم لتدخل في تغطيات الصحف العالمية بالتزامن مع ملاحقة أحداث الحرب مع داعش على الأرض.

في الوقت نفسه ظهرت مقالات في صحف عربية بعناوين لافتة: فرانكشتاين في دمشق، أو فرانكشتاين في صنعاء، يتحدّث كتّابها فيها عن المقاربة التي صنعتها روايتي لأوضاع بلدانهم المحلية.

كان الأمر غريباً بالنسبة لي، خصوصاً حين أتذكر المنظور الذي كنت أكتب من خلاله: مراجعة الحرب الأهلية العراقية ما بين 2005-2007 التي كنت "أتوهّم" أنها غدت من الماضي.

في زمن حكم نظام صدّام، ما كان فن الرواية مزدهراً في العراق، ويلجأ الكثير من الموهوبين إلى الشعر، ففيه مساحة واسعة من الألاعيب والحيل، وإنتاج الاستعارات والمجازات، التي من الصعب معرفة ما تقول، خصوصاً حين يكون هذا المتحقق من المعاني هو رجل أمن شبه أمي، أو لا علاقة له بالثقافة والشعر.

في فترة الثمانينيات وخلال الحرب العراقية الإيرانية كان الأدباء الشباب يلجؤون إلى التجارب الدادائية والسريالية، ويتقصدون أن يكتبوا أشياء بلا معنى، وحين يجلسون في مجالسهم الخاصة، كانوا يتحدّثون عن المعنى السياسي من وراء كتابة نصوص من هذا النوع، فاللا معنى هنا هو مقاومة لمعنى السلطة القائمة.

في فن الرواية لا تستطيع أن تقول مثل هذه الأشياء، فالرواية بطبيعتها هي عمل أدبي يشتبك مع التاريخ والمجتمع. إن كتبت عملاً روائياً خالياً من الإحالة إلى تاريخ محدد وزمان ومكان ومجتمع محدد فأنت بذلك تكتب نصاً شعرياً نثرياً طويلاً. وقد كتب البعض روايات من هذا النوع، أو نصوصاً هلامية الشكل قال مؤلفوها إنها رواية، من دون أن تكون كذلك فعلاً!

لجأ الكاتب عبد الخالق الركابي، وهو روائي قدير من جيل ما بعد جيل الرواد في الرواية العراقية، إلى التاريخ البعيد، عن أحداث تجري في العهد العثماني. أغلب رواياته تجري في تلك الفترة، وتحمل إحالات اجتماعية وثقافية وسياسية عديدة، ولكنها لا تحيل إلى زمن حكم نظام صدام، وهذا شيء مريح للكاتب، ويبعده عن المساءلة الأمنية.

أهم رواية عراقية ظهرت في نهاية عقد التسعينيات كانت رواية "بابا سارتر" للروائي علي بدر، وهي تدور أيضاً في زمن سابق على زمن حكم نظام البعث وصدّام، في الستينيات.

ولو استمر نظام صدام ولم يسقط في 2003 لرأينا روايات كثيرة تلجأ إلى الماضي، وتتجنب الخوض في الحاضر أو الماضي القريب، لأن هذا يتطلب مواجهة "المعنى" الذي تصدّره السلطة الديكتاتورية وتحاول فرضه كمعنى وحيد للتاريخ.

هناك أكثر من 250 رواية عراقية صدرت ما بعد عام 2003، وأغلبها يشتبك مع الحاضر. هذا الحاضر الذي تحرّر من النظام الاستبدادي، ولكنها للأسف حرية غير محمية بسلطة القانون وأجهزته التنفيذية، وتتداخل مع الفوضى. ورغم ذلك فالكتاب غامروا لاستثمار هذا الفضاء من الحرية إلى أقصى حدّ.

علي بدر نفسه أصدر عدّة روايات تتحدث عن هذا الحاضر، لعل من أشهرها"حارس التبغ"في عام 2008. كما أن الكاتب الكبير عبد الخالق الركابي الذي عرف برواياته التاريخية أصدر عدّة روايات تشتبك مع هذا الحاضر، مثلأطراس الكلام 2009، سفر السرمدية 2005، مقامات إسماعيل الذبيح 2013 ، ما لم تمسسه النار 2016.

في كلّ هذه الروايات هناك اشتباك مع الواقع ومع الماضي القريب بحرية غير مسبوقة، ونجد روايات تحاكم أحزاباً وتيارات سياسية ومراحل من التاريخ العراقي، كما في رواية 1958 للروائي العراقي ضياء الخالدي، التي يفترض فيها عالماً لم يسقط فيه النظام الملكي واستمر في الوجود حتى وقتنا الحاضر.

برأيي أن الأعمال الروائية ذات الجودة العالية والتي تتحقق فيها الشروط الفنية للنوع الأدبي، هي شكلٌ من الذاكرة، لا ذاكرة يعاد إنتاجها على وفق رأي السلطة، وإنما ذاكرة متنوعة ومتعددة الرؤى، كما هو المجتمع نفسه.

وبالرغم من أن الواقع الفعلي ما زال محتدماً وغير مستقر، وما زال العراق نفسه في خضم التحوّلات والأزمات العديدة، إلا إن الكثير من الكتّاب طوّروا آليات للتكيّف مع هذا "الموت الذي نموته كلّ يوم" ولا يبدو أنه سينتهي.

فيتركون فاصلاً تأملياً بينهم وبين الواقع، ويحاولون أن ينظروا إلى النتائج المترسّبة من أحداث السنين السابقة، ليبنوا عليها هيكل أعمالهم الأدبية.

على الجانب الآخر تسقط المواهب المحدودة تحت وطأة الانبهار بالوقائع، وتحاول مجاراتها أو نسخها، أو إنتاجها شعرياً وبلاغياً من دون موقف تأملي يغوص إلى أبعد من السطح.

بالنسبة لي أمام هذا الواقع "شديد الواقعية" لا أرى من خيارات أمام الفنّ الروائي سوى صبّ المزيد من الخيال لتخفيف حدّته. وهذا أشبه بالمسار الاستراتيجي في كلّ أعمالي الأدبية.

في الخيال هناك مساحة لاحتمالات أخرى للواقع، وهناك فسحة لإعادة قراءة الواقع من منظورات مختلفة، من عيني وحش ربما، أو من تجربة زوجين تسوقهما الأقدار إلى مستوطنة على سطح المريّخ "قصة شاميرام وفضيل"، من كتابي "الوجه العاري داخل الحلم". الخيال الميتافيزيقي الديني وما فيه من إمكانيات. خصوصاً حين يتعامل المجتمع نفسه مع المنتجات الخيالية على أنها وقائع. الأحلام والكوابيس، الأمنيات والرغبات المقموعة التي تلاحق أصحابها زمناً طويلاً، رغم أنها لم تغد وقائع أبداً.

يبقى الخيال بالنسبة لي منطقة إمكانات لا حدود لها، بينما الواقع الفعلي هو مجرد إمكان قد تحقّق فعلاً، الواقع خيال متكلّس، كما يقول نيتشه. لذلك أقول دائماً إنه من المرهق مواجهته على الدوام بعينين مفتوحتين. والأدب ليس مرآة للواقع، وإنما واقع آخر، أو واقع أعيد إنتاجه كي يكون أكثر سيولة وأقل جفافاً وصلابة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً