تابعنا
تشتدّ المظاهرات المناهضة للحكومة في العراق فيما يستعد لبنان لموجة جديدة من الاحتجاجات بعد استمرار تردِّي الأوضاع الاقتصادية وعدم تشكيل حكومة تكنوقراط خلفاً للحكومة المستقيلة.

وتعاني احتجاجات إيران من قبضة حديدية وتعتيم إعلامي شديد من السلطات التي أعلنت من جانبها الانتصار على مؤامرة مزعومة.

وبعد أن تباهى قادة إيرانيّون بنفوذ الدولة خارج حدودها لتشمل دولا عربية مثل العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، جاءت الاحتجاجات في معاقل النفوذ الإيرانيّ في العراق ولبنان وامتدَّت إلى إيران نفسها لتضع علامات استفهام حول مستقبل الدور الإيرانيّ في المنطقة، وفي الجبهة الداخلية الإيرانيَّة ذاتها؟

احتجاجات من أجل لقمة العيش

واللافت أن هذه الاحتجاجات جاءت على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية وازدياد الأعباء على كاهل الطبقة الفقيرة وربما المتوسطة أيضاً، ولكن فساد الطبقة الحاكمة في لبنان والعراق هو الذي تسبب في معاناة المواطنين وإخراجهم إلى الشارع ليشكّلوا ضغطاً على السُّلْطة السياسية المرتهنة أو التابعة للقرار الإيرانيّ.

أما في إيران ذاتها فقد زادت الأعباء المعيشية على الشعب لتُتوَّج بالرفع الفاحش لأسعار المحروقات على أبواب فصل الشتاء، فضلاً عن الفساد في المؤسَّسات، وقناعة واسعة وسط الشعب بأن أموال الدولة تنفقها طبقة الملالي في الخارج لتعزيز نفوذها الطائفي.

واختلفت الاحتجاجات في إيران بشدتها واتساعها عما سبقها من احتجاجات، وقد تكون مدخلاً لتغيير خريطة الحكم في المستقبل.

وتوافرت لدى الإيرانيّين أسباب أكثر مِمَّا توافر للبنانيين والعراقيين للتحرُّك العفوي والانتفاض على السُّلْطة التي تَصدَّت للمتظاهرين بالقمع الشديد ليسقط أكثر من 200 قتيل حسب منظَّمات حقوقية، مع استمرار حملات القمع والتضييق والتخوين ومحاولة ربط الحراك بمؤامرة خارجية بدلاً من السعي لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن الناس والتراجع ولو جزئيّاً عن قرار رفع المحروقات والقيام بحزمة من الإصلاحات الاقتصادية.

تخوين بدلاً من العلاج

وكما فعلت مع احتجاجات العراقيين، اتهمت إيران أطرافاً خارجية بالوقوف وراءها، وها هو ذا رئيس أعلى هرم في الدولة وهو علي خامنئي المرشد الأعلى الإيرانيّ، يقول إنه تم "دحر العدو"، وإن ما حدث كان "ممارسات أمنية لا شعبية"، في إشارة إلى اعتقال من قالت طهران إنهم عملاء للاستخبارات الأمريكيَّة متورطون في الاحتجاجات.

وقال إن طهران ستجبر الأعداء على التراجع في ما يخصّ الحرب الاقتصادية المفروضة على البلاد، مشيراً إلى أنها استطاعت إجبار الأعداء على التراجع عسكريّاً وسياسيّاً وأمنيّاً في المرحلة السابقة.

وقد تكون هذه الاتهامات صحيحة في جزء منها ولكنها لا تعبِّر عن كل الحقيقة، فالاحتجاجات قامت بشكل عفوي ضدّ قرار رفع المحروقات إلى الضعفين. ووفّر تعامل السلطات معها بالقمع الشديد بيئة خصبة للتدخلات الخارجية، فضلاً عن دور الغرب أصلاً في محاربة النِّظام الإيرانيّ ومعاقبته بسبب برنامجه النووي.

ففي حالة الحصار الخارجي لا بد من تمتين الجبهة الداخلية وتحصينها لتكون رديفا للسُّلْطة في مواجهته، أما أن تعمل هذه السُّلْطة على سحق الفقراء وتجاهل مطالبهم وغضّ البصر عن الفساد فلا تتوقع منهم أن يساندوها ويقفوا معها، وهذا ما فشلت السُّلْطة الإيرانيَّة في فهمه، الأمر الذي سيكون له عواقب وخيمة على من يزعم أنه يواجه مؤامرة خارجية.

انقسام داخلي في إيران

وتبريرا لقطع الإنترنت عن الشعب، قال وزير الداخلية الإيرانيّ عبد الرضا رحماني فضلي: "لقد حجبنا الإنترنت لصالح الشعب الإيرانيّ"، إلا أن الحقيقة تقول إن السلطات لجأت إلى هذه الوسيلة بعد فشلها في وضع حدّ للاحتجاجات التي يبدو أنها متواصلة رغم التعتيم الإعلامي عليها.

ومن هنا يمكن فهم الخلافات بين التيَّارين الإصلاحي والمتشدِّد في التعامل مع الاحتجاجات، إذ وصف الرئيس الإيرانيّ السابق وزعيم التيَّار الإصلاحي محمد خاتمي في بيان له الاحتجاجات بأنها "عميقة الجذور"، وأن أسبابها تتلخص بـ"الفقر والتدهور الاقتصادي وسوء الإدارة"، ولكنه في الوقت ذاته قال إنه "لا يمكن إنكار وجود عمليات تخريب ومحاولات لتحويل الاحتجاجات إلى شغب، وكان بعضها منظَّماً".

إلا أن مهدي كروبي، رئيس البرلمان السابق وأحد زعماء الحركة الخضراء الخاضع للإقامة الجبرية في منزله منذ عام 2011 كان أكثر وضوحاً عندما قال إن قمع الاحتجاجات السلمية "عنف لا يوصف" من قبل السلطات ضدّ المحتجين. وحذّر السلطات من "اليوم الذي ينفد فيه صبر الناس وينفجر ويُحدِث ثورة أخرى".

وكان بذلك يعلّق على وصف قائد الحرس الثوري الإيرانيّ حسين سلامي الاحتجاجات بأنها "حرب شاملة" و"مؤامرة عالَمية ضدّ الجمهورية الإسلامية".

الشِّيعة يشعلون العراق

وفي العراق فإن اللافت للانتباه أن الاحتجاجات قامت في مناطق الشِّيعة في الناصرية والنجف والبصرة، فيما اقتصرت مشاركة مناطق السنة في الشمال والغرب على تقديم الدعم الجماهيري.

ورفعت يافطات وأطلقت هتافات شيعية تدعو لخروج إيران من العراق، بما يشير إضافة إللى السخط على الطبقة الحاكمة الفاسدة المرتهنة لها، إلى رفض الوصاية الإيرانيَّة نفسها، وهو ما دفع بالمرجع مقتدى الصدر إلى المطالبة بمحاكمة الحكومة المستقيلة وأجهزة الأمن التي يقف على رأسها الحشد الشعبي التابع لإيران.

ولذلك صبّ المحتجون جام غضبهم على القنصلية الإيرانيَّة في النجف وأحرقوها مرتين وحاولوا اقتحام مؤسَّسة الحكيم التي تضمّ أيضاً قبر محمد باقر الحكيم (مؤسَّس المجلس الأعلى الإسلامي) في ساحة ثورة العشرين.

وهذا ما دفع ممثّل خامنئي حسين شريعتمداري إلى القول إن "إحراق القنصلية الإيرانيَّة في النجف يُضعِف محور المقاومة"، واصفاً المتظاهرين العراقيين بأنهم "أوباش مأجورون"، مطالبا ميليشيات الحشد الشعبي المحسوبة على إيران باقتلاع جذورهم.

النفوذ الإيرانيّ يتراجع

ولا يزال لبنان أيضاً يتحرك ضدّ الفساد والغلاء فيما يتشبث حزب الله بالحديث عن مؤامرة رغم تحالفه مع فاسدين أوصلوا البلاد إلى ما هي عليه الآن، رغم أن الاحتجاجات كانت عفوية الطابع قبل أن تدخل عليها المؤثرات الخارجية.

ومرة ثانية وثالثة أساءت القيادة الإيرانيَّة وأتباعها في العراق ولبنان قراءة الأحداث، وأعمتها طائفيتها عن رؤية الحقيقة التي تقول إنه ليس بإمكان أقلية مثل الشِّيعة أن تستمرّ في حكم الأغلبية السنية مهما طال الزمن وكثرت المبررات، ومنها حماية محور المقاومة الذي لم يعُد يقنع أحداً، الأمر الذي سيجعلها تدفع ثمنا غاليا إن هي استمرت في هذا النهج.

مستقبل الدور الإيرانيّ

وكدولة كبيرة مثل العراق لا تستطيع إيران أن تتحكم فيها وتخضعها لنفوذها، ففي الوقت الذي دعا فيه المرشد الروحي لشيعة العراق علي السيستاني رئيس الحكومة إلى الاستقالة رضوخاً للضغط الشعبي، كان خامنئي يصف الاحتجاجات بأنها مؤامرة ويدعو لمواجهتها بالقوة في مؤشّر يدلّ على التباين بين المرجعيتين في تقييم ما يجري والتعامل معه، وأن شيعة العراق لن يظلوا مرتهَنين للقرار السياسي الإيرانيّ طال الزمن أو قصر، هذا فضلاً عن الرفض السُّنِّيّ العارم لهيمنة الشِّيعة على البلد وما قد يخلّفه هذا من اضطرابات سياسية في البلاد لن تكون القوى الإقليمية والدولية بعيدة عنها.

وفضلاً عن هذا فإن شكل النِّظام الإيرانيّ نفسه معرَّض للتغيير والتبديل في ظلّ المؤامرات الخارجية عليه ما لم يبادر إلى تغيير توجُّهاته في الحكم، وقد يؤثّر هذا على دور حزب الله في لبنان ويضعفه في أي مواجهة مقبلة مع إسرائيل.

على القيادة الإيرانيَّة أن تعيد النظر في مواقفها وأن تتخلى عن أحلام السيطرة الطائفية على المنطقة، وأن تتوجه للتحالف مع القوى السنية المخلصة مثل تركيا وأن تتعايش مع محيطها السني لمواجهة الاستهداف الخارجي، ولا يمكنها الركون إلى نفوذها في المنطقة ما لم تتعايش مع شعوبها وتوقف عدوانها في سوريا واليمن. ودون ذلك فمستقبل الدور الإيرانيّ وبرنامج طهران النووي على المحكّ، كما أن الأمة ستضعف شوكتها في مواجهة الأطماع الخارجية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً