تابعنا
حبست إسرائيل أنفاسها طوال تلك الليلة، وتمنت نجاح المحاولة الانقلابية، وأن تستيقظ في اليوم التالي وقد وجدت أردوغان حبيس زنزانة، أو في المنفى، أو على أقل تقدير لم يعد ذلك الزعيم الذي يقود إحدى أقوى دول المنطقة في سياسته المناوئة لإسرائيل.

عاشت إسرائيل ساعات الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا في مثل هذه الأيام من عام 2016 باهتمام بالغ. فقد قطعت قنوات التلفزة الإسرائيلية برامجها، وفتحت موجات مفتوحة لتناقل الأخبار التي اعتبرتها "سعيدة ومفرحة"، واستنفرت المؤسسة الأمنية والسياسية رجالاتها، ممّن دخلوا حالة طوارئ، وصدرت التعليمات للناطقين الرسميين بالتزام الصمت كي لا يحسب أي موقف على إسرائيل: سلباً أو إيجاباً.

لكن الأكيد أن أعضاء المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية "الكابينت" تلقوا تقارير متواصلة، لحظة بلحظة، حول تطورات الأوضاع في تركيا طوال ليلة السبت التي شهدت أحداث المحاولة الانقلابية.

وظل سكرتير الحكومة الإسرائيلية متواصلاً مع الوزراء، رغم حلول يوم السبت الذي يتوقف العمل فيه لأسباب دينية يهودية، لبلورة موقف سياسي يخدم المصالح الإسرائيلية من المحاولة الانقلابية، وبدا واضحاً أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وجميع وزرائه لم يناموا لحظة واحدة طوال الليل، على أمل أن تسفر المحاولة الانقلابية عن التخلص من "أردوغان" الذي يسبب لهم صداعاً مزمناً، لأنهم كانوا متيقنين أنه، في حال فشل المحاولة الانقلابية، وهو ما حصل فعلاً، فإنه "سيعود لمهاجمتنا، وتحدينا عندما تتغير الظروف" على حد وصف وزير إسرائيلي.

حبست إسرائيل أنفاسها طوال تلك الليلة، وتمنت نجاح المحاولة الانقلابية، وأن تستيقظ في اليوم التالي وقد وجدت أردوغان حبيس زنزانة، أو في المنفى، أو على أقل تقدير لم يعد ذلك الزعيم الذي يقود إحدى أقوى دول المنطقة في سياسته المناوئة لإسرائيل، ولذلك عمت الصلوات كل أرجائها على أمل أن تنجح المحاولة الانقلابية.

ترقب الإسرائيليون طوال تلك الليلة نجاح المحاولة الانقلابية للتخلص من أردوغان، لأنهم لا يحملون إلا ذكريات مؤلمة عنه منذ أحداث مرمرة على شواطئ غزة أواسط 2010، وبات الجميع في إسرائيل لا يطيقون أردوغان، لأنه يصر على تقديم تركيا نداً مكافئاً، ورغم أن قادة إسرائيل معنيون بأن تكون علاقتهم بتركيا أفضل ممَّا هي عليه الآن، لكن حرص أردوغان "المفرط" على احترام بلاده يعرقل بناء علاقات ثابتة معها.

وبدا لافتاً تلقف الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية تصريحات لمسؤولين أتراك عن علاقة محتملة تربط مدبر محاولة الانقلاب في تركيا بإسرائيل، فقد عمل فيها بين 1998-2000 ملحقاً عسكرياً لتركيا، والحديث يدور عن قائد القوات الجوية التركية السابق الجنرال أكين أوزتورك الذي وصفته أنقرة بـ"المدبر الرئيسي" للانقلاب الفاشل.

في الوقت ذاته بدا الحنق والغضب ظاهرين من فشل المحاولة الانقلابية في تركيا كما عكست ذلك صياغة عناوين الأخبار والتقارير في الصحف والمواقع الإخبارية، واختارت بعض الصحف الإسرائيلية عناوين من قبيل: "السلطان قادم"، "السلطان باق"، "انتصار أردوغان"، حتى إن السفير الإسرائيلي الأسبق في أنقرة، بنحاس أفيفي، لم يتورع عن الاعتراف بالقول فور الإعلان عن فشل الانقلاب أن ذلك شكل مفاجأة كاملة لإسرائيل التي توقعت أن يطيح به الجيش التركي سريعاً.

في حين أوضح ألون ليئيل، السفير الإسرائيلي الأسبق في تركيا، أن "إسرائيل دأبت على القول والتأمل بأن يكون هناك انقلاب عسكري ضد أردوغان، لكني أعتقد أنه لن يكون ممكناً حدوثه، فأردوغان يحظى اليوم بالثقة التامة من الجيش والشرطة والمؤسسة التركية، لا يمكن الإطاحة به، وسيظل رئيساً حتى 2023 في الذكرى المئوية للجمهورية، وبحلول ذلك الوقت سيظل أردوغان محصناً من الانقلابات".

دأبت إسرائيل، سواء من خلال متحدثيها الرسميين أو الخبراء المقربين من دوائر صنع القرار فيها، على اعتبار أردوغان العقبة الأبرز أمام تحقيق نفوذها في المنطقة، ولعلها دعت أو تأملت، وعلى لسان العديد من قياداتها السياسية والعسكرية، رغبتها بالتخلص منه.

فقد كتب الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي بعد الانقلاب في مصر أواسط 2013، "تخلصنا من مرسي، ويتبقى التخلص من أردوغان"، واعتبر الجنرال يائير غولان، نائب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، أن "وجود أردوغان في الحكم من أهم مسببات الإشكاليات لإسرائيل".

صحيح أن إسرائيل تمهلت وتريثت في إصدار مواقف رسمية أثناء المحاولة الانقلابية، فلم تعلّق عليها إلا بعد مرور 15 ساعة، حين تجلت الأمور، بصدور تصريح عن الخارجية الإسرائيلية، يعلن وقوفها بجانب ما أسمتها "الديموقراطية التركية"، لكن ذلك لم يمنع كثيراً من السياسيين السابقين أن يُبدوا رغبتهم وتفضيلهم زوال حكم أردوغان في تركيا، واعتبروه إضافة نوعية لوجود نفوذ إسرائيلي أكبر في المنطقة.

غاليا ليندنشتراوس الخبيرة الإسرائيلية في الشأن التركي بمعهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب حاولت "تبرير" الموقف الإسرائيلي المرتاح لمحاولة الانقلاب الفاشلة بقولها: إن "مستوى التعاون الأمني والعسكري بين إسرائيل وتركيا تراجع منذ تولي أردوغان السلطة، والوضع بيننا لا يزال كارثياً، لأننا في سنوات سابقة على حكمه عقدنا صفقات أمنية شملت الدبابات والطائرات، ربحنا منها كثيراً، أما اليوم فلم يعقد أي اجتماع منذ عشر سنوات بين كبار المسؤولين الإسرائيليين والأتراك، ولا أعرف إذا كان نتنياهو يستطيع إجراء مكالمة مع أردوغان، فالعلاقة منهارة تماماً".

تابع الإعلام الإسرائيلي أحداث محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا على مدار الساعة، ورغم أن ملامح البهجة والسرور غطت وجوه المحللين والمعلقين على الشاشات الإسرائيلية، إلا أن التعاطي معه لم يصل إلى تبنّي أي من الروايات، وقررت وسائل الإعلام الإسرائيلية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية إرسال مراسلين خاصين بها إلى تركيا لمتابعة الأحداث والبث المباشر.

لكن هذا النقل الخبري لم يُخْفِ تبرير العديد من الإعلاميين الإسرائيليين محاولة الانقلاب على نظام ديمقراطي، معتبرين أن عدم وجود نظام أردوغان أفضل لإسرائيل، حتى إن بن درور يميني الكاتب اليميني زعم أن "إسرائيل كلها توجهت إلى الله بالدعاء أن يسقط حكم أردوغان".

ولم يُخْفِ حاغي هوبرمان، المحلل العسكري، أن "نجاح الانقلاب كان سيَلقَى تصفيقاً من إسرائيل"، أما الخبير الأمني يوسي ميلمان فزعم أن "إسرائيل ومنظومتها الأمنية والعسكرية لم تكن لتذرف دمعة واحدة لو سقط حكم أردوغان"، ولذلك فإن فشل الانقلاب في تركيا لم يُخْفِ الحسرة التي رافقت قيادات إسرائيلية رفيعة، وتأمل نائب رئيس جهاز الموساد السابق رام بن باراك أن "تشهد تركيا في المستقبل ثورات أخرى ضد أردوغان".

أجمعت النخب الإسرائيلية على أن أسباب فشل الانقلاب تعود للقوة الخاصة التي بناها أردوغان، وقوته الاستخباراتية الكبيرة، ووجود قطاع من قادة الجيش رافضين للانقلاب.

رغم المواقف الإسرائيلية الرسمية "الضمنية" أو غير الرسمية "العلنية" التي وقفت مؤيدة للانقلاب الفاشل في تركيا، لكنها تدرك حاجتها لاستمرار العلاقات معها، وتدرك أنها لاعب أساسي في الساحة الإقليمية، وبحاجة لأن تكون هادئة ومستقرة، وفي هذا مصلحة إسرائيلية تتعلق بالغاز وتصديره، لكن ذلك لا يلغي فرضية أن تكون إسرائيل أكثر حذراً في التعامل مع تركيا بعد فشل الانقلاب، لأنها ستكون أكثر صلابة في التعاطي مع القضايا الإقليمية، وأكثر قوّة في طرح السياسة المناهضة لإسرائيل.

صحيح أن المحافل الإسرائيلية توافقت على أن تركيا بعد الانقلاب الفاشل لن تُعطّل العلاقات مع إسرائيل بصورة نهائية، لكن العلاقات في الوقت ذاته لن تعود لذات الحميمية، ولا أحد يضمن مستقبلاً عدم عودتها للجمود مجدداً، رغم بقاء التطلع الإسرائيلي بتغيير أردوغان، بعد أن فقدت بسببه حليفاً استراتيجيّاً مهمّاً، أجبرها في النهاية على الاعتذار، وكسر عنجهيتها عقب أحداث مرمرة.

يركز الإجماع الإسرائيلي على أن النظام التركي الحالي، خاصة بعد فشل الانقلاب، يسعى ليكون ذا دور إقليمي بارز، الأمر الذي سيسفر عن تعارض مصالح الجانبين في كثير من الملفات، ممَّا يجعل إسرائيل تعتقد أن تركيا من دون أردوغان، أكثر قرباً، وأفضل للشراكة والتعاون معها.

من وجهة النظر الإسرائيلية شكل الجيش التركي معيقاً مهماً أمام أردوغان لتطبيق الكثير من رؤاه المحلية والإقليمية، وثقلاً نوعياً دفعه إلى عدم توتير العلاقات مع إسرائيل كثيراً، ولما أسفر الانقلاب الفاشل عن قيام أردوغان بتطهير الجيش من تلك العناصر التابعة لتنظيم غولن الإرهابي، فإن ذلك صب في غير مصلحة إسرائيل، لأن فشل الانقلاب منح فرصة أكبر لتركيا أن تكون أكثر ثقة، وأكثر حدّة في التعامل مع إسرائيل في المستقبل، ولعل تركيا الآن هي الدولة الأبرز في الاعتراض على "صفقة القرن" ومشاريع ضم الضفة الغربية والأغوار. وفي حديث الرئيس أردوغان حول إعادة آيا صوفيا مسجداً مجدداً، اعتبر أن ذلك بشارة لتحرير القدس والمسجد الأقصى. ولا شك أن هذا يغيظ الصهاينة كثيراً.

صحيح أن الإسرائيليين يتأملون عودة العلاقات مع أنقرة لطبيعتها، بعد فشل الانقلاب، لكنهم لا يضمنون عدم توترها مجدداً، علاوة على أن أنقرة لن تقدَّم أي شيء بالمجان لتل أبيب، ولذلك ترى الأخيرة أن مصلحتها في مسايرة أردوغان، والحفاظ على مصالحها، على أن تبقى تركيا من دون أردوغان حلماً إسرائيلياً قد لا يتحقق.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً