تابعنا
لم تشهد وثائق حزب البعث تغييرا يذكر رغم التحولات الكبرى التي شهدها العالم ، وتغيير النظام لاقتصاده وتبنيه النظم الأقرب إلى النظام الرأسمالي، ومن هنا يعتبر الحزب في نسخته الراهنة حزب مصالح لا حزب أفكار، وأداة للإمساك بالسلطة وليس جسرا للعبور نحوها.

على مدى ٧١ عاماً من تأسيسه، تبدو حالة "حزب البعث العربي الاشتراكي" قاتمة إذا ما قورنت بما حققه الحزب من أهدافه ومبادئه الأساسية، وتزداد الصورة قتامتة عندما يعكف الباحث على دراسة صراعات الحزب الداخلية وأزماته مع القوى السياسية الأخرى، وتناقضاته عندما أحكم قبضته على السلطة منذ عام ١٩٦٣ حتى الوقت الحالي. ومع اشتعال الأزمة السورية فلا يبدو أن بشار الأسد لديه أي مشروع حقيقي لإعادة تفعيل الحزب، أو الاعتماد عليه في إحكام قبضته البوليسية على البلاد خصوصاً مع التغلغل الروسي والإيراني الكبير في مفاصل الدولة.

مرحلة التأسيس.

ومنذ تأسيسه عام ١٩٤٧ تعرض حزب البعث للكثير من عمليات التركيب وإعادة التركيب لتتناسب مع الظرفية السياسية للبلاد. فقد اكتسب الحزب اسمه الراهن باندماج حزبي البعث العربي (ميشيل عفلق، صلاح البيطار، وزكي الأرسوزي) والعربي الاشتراكي (أكرم الحوراني) عام ١٩٥٢. غير أن هذا الاندماج لم يَدُم سوى عشر سنوات، حيث عادا للانشطار، وتحول الحوراني معارضاً للنظام بعد خلافه مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وتأييده انفصال سورية عن مصر عام ١٩٦١.

لقد حول الأسد الأب الحزب إلى أداة ضاربة له في وجه خصومه، كما استخدم واجهة مدنية للهيمنة العسكرية والأمنية التي كان يتولاها ضباط علويون يدينون بالولاء للأسد.

أحمد رمضان

أما مؤسسي البعث الآخرين، فقد اغتيل صلاح البيطار على يد نظام حافظ الأسد في باريس عام ١٩٨٠ بعد أن أعلن مجاهرته للعداء لنظامه وإصداره مجلة "الإحياء العربي" عام ١٩٧٨، التي كانت تنتقد حكم الأسد بقوة، فيما توفي مؤسس الحزب الأبرز ميشيل عفلق في بغداد عام ١٩٨٩ بعد أن انحاز لحكم البعث في العراق.

وتعكست أزمات الاعتقال والنفي والاغتيال وجهاً آخر من صراعات حزب البعث الداخلية، ومنها ما عُرف بالصراع بين اللجنة المدنية التي كانت تمثل الإطار التنظيمي المدني للحزب وتضم النخبة السياسية، واللجنة العسكرية التي أسسها حافظ الأسد إبان ابتعاثه للتدريب في القاهرة زمن الوحدة مع مصر، وتضم مجموعة الضباط العسكريين، وقد حُسم هذا الصراع لصالح العسكر بقيادة حافظ الأسد وصلاح جديد بانقلاب الثامن من آذار ١٩٦٣، والذي تبعته سلسلة نزاعات دموية انتهت بحركة ١٦ تشرين ثاني ١٩٧٠ بقيادة حافظ الأسد، حيث اعتقل جديد وبقي في السجن إلى حين وفاته في ١٩ آب ١٩٩٣، كما اعتقل قادة البعث من خصوم الأسد.

البعث بعد عام ١٩٧٠حتى رحيل الأسد الأب

يمثل عام ١٩٧٠ منعطفاً مهماً في مسار حزب البعث في سورية، حيث شهد سيطرة المجموعة العسكرية على قرار الحزب وتصفية القادة السياسيين أو نفيهم إلى الخارج، وتلاه في شهر تشرين ثاني من ذلك العام، الانقلاب داخل المجموعة العسكرية نفسها، وهيمنة حافظ الأسد على الدولة والحزب، وسجن خصومه وفي مقدمتهم صلاح جديد، وتصفية آخرين، وإصداره عام ١٩٧٣ دستوراً قوبل برفض شعبي، حيث شهدت المدن السورية موجة احتجاج كبيرة بسبب ما تضمنه الدستور من انقلاب على قيم الحرية والعدالة والتعددية، وترسيخ هيمنة الحزب على مفاصل الدولة والمجتمع، وإغلاق منافذ الحيــاة السياسية باستثناء بعض الأحزاب اليسارية والماركسية التي احتفظ بها النظام بسبب علاقته مع الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.

يمكن تلخيص مسار حزب البعث منذ عام ١٩٧٠ وحتى رحيل الأسد الأب عام ٢٠٠٠ بالنقاط التالية:

أولا: خضوع مؤسسات الحزب القيادية لهيمنة الأجهزة الأمنية، وتحول عناصر الحزب إلى أدوات لرصد الخصوم والإبلاغ عنهم، مقابل حصولهم على امتيازات ومكاسب مالية أو مناصب.

ثانيا:شلل المؤسسات القيادية، مثل القيادة القومية (تضم ممثلي فروع الحزب خارج سورية)، والقيادة القطرية (تضم ممثلي الحزب في سورية) لحساب رئيس الحزب، وهو رئيس الدولة وقائد الجيش. وقد حول الأسد الأب الحزب إلى أداة ضاربة له في وجه خصومه، كما استخدم واجهة مدنية للهيمنة العسكرية والأمنية التي كان يتولاها ضباط علويون يدينون بالولاء للأسد.

وقد لعبت عناصر الحزب، الذين جرى تسليحهم وتنظيمهم في مجموعات خاصة، دوراً مهماً في التصدي للمعارضة الإسلامية في الاحتجاجات التي وقعت بين عامي ١٩٨٠-١٩٨٢، والتي انتهت بوقوع مجزرة مروِّعة في مدينة حماة قتل فيها نحو ٤٠ ألف مدني وتدمير معظم أحياء المدنية.

ثالثا: شكل حزب البعث مع أحزاب اليسار والحزب الشيوعي عام ١٩٧٢ الجبهة الوطنية التقدمية، والتي لم يكن لها أي دور في صناعة قرار الدولة، ولكنها غدت واجهة سياسية يتذرع من خلالها النظام بوجود تعددية سياسية في سورية، وقد مُنح هؤلاء مقاعد محددة مسبقاً في مجلس الشعب (البرلمان) والحكومة، دون أن تكون لهم أي صلة بسياسات الدفاع والداخلية والخارجية والاقتصاد والمالية، والتي كانت حكراً على القصر الجمهوري ورئيس الدولة.

لا يبدو أن الأسد الابن يملك مشروعاً واضحاً لإعادة تنشيط حزب البعث أو ضخ دماء وأفكار جديدة فيه، خاصة مع خضوع النظام لهيمنة إيرانية وروسية وإمساك الطرفين بمفاصل القرار الداخلي.

أحمد رمضان

رابعا: استخدم الحزب "القيادة القومية" كوسيلة لكسب مؤيدين للنظام في الدول العربية التي ينشط فيها، مثل لبنان، الأردن، اليمن، تونس، والسودان، إضافة إلى إقامة روابط مع الأحزاب الاشتراكية الأممية، وقد ساعده ذلك في تبرير صراعاته وتناقضاته، ومنها حربه ضد الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير بين عامي ١٩٧٦ و١٩٨٣ واعتقاله المئات من مؤيدي الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

خامسا: تعتبر الفترة بين عامي ١٩٧٠-٢٠٠٠ مرحلة الانحسار الفكري للحزب، حيث خَلَت صفوفه من أي منظرين لامعين أمكنهم تجديد رؤى الحزب الفكرية، وانصهر ضمن أجهزة الدولة وباتَ أداة بيدها، وهو الأمر الذي جعل الحزب بلا مُنتج فكري، واتسمت سُمعته بالسلبية، كما كان حال الأحزاب الاشتراكية التي انهارت بناها مع انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي عام ١٩٩١، وقد جعل ذلك الحزب قلقاً إلى درجة كبيرة من أي منافسة حزبية جدية في ظل نظام تعددي كانت ترتفع المطالَب الشعبية به بعد وفاة الأسد الأب.

حزب البعث: الأسد الابن وتغول الإيرانيين

شكلت وفاة حافظ الأسد صدمة قوية لحزب البعث، نظراً لأن جميع الخيوط كانت بيده وتُدار بشكل غامض، وجاء استلام نجله بشار دُفة القيادة في الحزب والدولة، عنصراً آخر لأزمة القيادة، حيث يُنظر إلى بشار الذي كان حديث السنِّ في حينه (٣٤ عاماً)، على أنه قادم من خارج التسلسل القيادي، ولذا كان من الطبيعي أن يعمد إلى تهميش قيادات الحزب التي رافقت والده وساعدته على الإمساك بالسلطة، بل ساهمت في إيصال بشار وتمكينه من القيادة، ومنهم نائب الرئيس عبدالحليم خدام الذي انشق عن النظام عام ٢٠٠٥ بعد أشهر من اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، ووزير الدفاع السابق مصطفى طلاس الذي توفي في منفاه الاختياري في باريس عام ٢٠١٧ بعد خمس سنوات من مغادرته سورية، وكان خدام وطلاس من أقرب الشخصيات إلى حافظ الأسد، لكنهما واجها أزمة في التعايش مع نجله بشار، إلى الحد الذي أنحى فيه خدام باللوم على الأسد الأب بالقول إن "الخطيئة الكبرى التي ارتكبها حافظ الأسد أنه حوّل النظام الجمهوري إلى نظام عائلي، حيث كان يسعى في البداية لتوريث الحكم لنجله الأكبر باسل ولمّا قتل في حادث سيارة قرَّر أن يكون بشار هو الوريث".

عكف بشار منذ استلامه السلطة بدعم أمريكي، عقب لقائه الخاص مع وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في ١٣ حزيران ٢٠٠٠ حيث قالت الأخيرة "لمستُ بوادر مشجعة جداً إزاء رغبته في اتباع نهج والده، الذي اتخذ قراراً استراتيجياً لصالح السلام" في الشرق الأوسط، وأضافت "يبدو أن بشار يتمتع بتصميم كبير على ما يبدو ومستعد لاتمام واجبه".

شهدت تلك الفترة استمراراً في انحسار منظومة الحزب لحساب تغوُّل الأجهزة الأمنية التي شرعت في التصدي للحراك الذي تمثل في لجان إحياء المجتمع المدني مع بداية عهد بشار الأسد، ثم إعلان دمشق في ٢٠٠٥ الذي ضمَّ أهم قوى المعارضة السياسية بمختلف اتجاهاتها، ومثَّل ذلك تحدياً مباشراً للنظام ولحزب البعث، وأدى ذلك إلى تهيئة البيئة لانخراط سورية في موجة الربيع العربي في آذار ٢٠١١ بمشاركة شعبية وسياسية غير مسبوقة في ظل القمع المعروف للنظام.

ما بعد الربيع العربي

وخلال سنوات "الربيع السوري" منذ ٢٠١١ وحتى الآن شهد حزب البعث انشقاقات كبيرة في صفوفه، وخاصة ضمن قاعدته السُّنية، وانحاز عشرات الآلاف من عناصر الحزب لصفوف الجماهير معلنين انضمامهم لما عُرف بـ"ثورة الحرية والكرامة".

ومن الواضح أن ذلك عكس هشاشة البنية الداخلية التنظيمية للحزب من ناحية، وافتقاره لبنية فكرية متماسكة تناسب المرحلة، وتجيب على التساؤلات المطروحة، وتُعطي تفسيراً للتحديات التي أخفق النظام في التصدي لها بعد نحو نصف قرن من استلامه السلطة منفرداً في سورية.

يرتبط حزب البعث جذرياً بالنظام، وفي حال زوال الأخير أو انتهاء قبضته الأمنية فإن الحزب قد يكون معرضاً للانحسار أو الانتهاء.

أحمد رمضان

لا يبدو أن الأسد الابن يملك مشروعاً واضحاً لإعادة تنشيط حزب البعث أو ضخ دماء وأفكار جديدة فيه، خاصة مع خضوع النظام لهيمنة إيرانية وروسية وإمساك الطرفين بمفاصل القرار الداخلي، أمنياً وعسكرياً، وعجزه عن إخماد ثورة الشعب السوري رغم مستويات القمع المروِّعة.

وعكست التسريبات الأخيرة التي نقلتها صحيفة الوطن المقربة من النظام، محاولة للانكفاء نحو الداخل من خلال حل القيادة القومية، أو وقف التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتغيير طبيعة القيادة القطرية لتكون لجنة مركزية يرأسها بشار الأسد، دون أن تتحدث الصحيفة عن تغييرات تذكر في البرنامج السياسي للحزب الذي يعاني من ضعف القيادة وهشاشة الأداء وغياب الدور السياسي.

ينظر العديد من المطلعين لدور حزب البعث على أنه مرتبط جذرياً بالنظام، وفي حال زوال الأخير أو انتهاء قبضته الأمنية فإن الحزب قد يكون معرضاً للانحسار أو الانتهاء، كما حصل في العراق، ويشير هؤلاء إلى أن آخر اجتماع للمؤتمر القومي للحزب يعود إلى عام ١٩٨٠، بينما آخر اجتماع للقيادة القطرية يعود إلى عام ٢٠٠٥، ولم تشهد وثائق الحزب تغييراً يذكر رغم التحولات الكبرى التي شهدها العالم ومنها انهيار المنظومة الاشتراكية، وتغيير النظام لاقتصاده وتبنيه النظم الأقرب إلى النظام الرأسمالي، ومن هنا يعتبر الحزب في نسخته الراهنة حزب مصالح لا حزب أفكار، وأداة للإمساك بالسلطة وليس جسراً للعبور نحوها، كما هو الحال في النظم الديمقراطية التي تعتبر الانتخابات وسيلة التجدد للأحزاب والامتحان المستمر لكفاءتها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي

TRT عربي
الأكثر تداولاً