تابعنا
ما زالت صفقة القرن الأمريكية تشغل الأوساط الفلسطينية والإسرائيلية والعربية، مع زيادة الحديث عن قرب الإعلان عنها، ومواصلة المبعوثين الأمريكيين في زياراتهم المكوكية إلى المنطقة، لتسويقها والترويج لها، سواء على الصعيد السياسي، أو تجنيد الدعم المالي لها.

وبينما يواصل الفلسطينيون إعلان رفضهم الصفقة، سواء كانت السلطة الفلسطينية أو حماس، فإن مبعوث الرئيس الأمريكي وصهره جيراد كوشنير، الذي قام بجولة مكثفة أواخر فبراير وأوائل مارس إلى المنطقة، يبدو أنه نجح في تحشيد المزيد من الدعم السياسي والمالي للصفقة المذكورة، فقد أثار ذلك خلافاً فلسطينياً عربياً، ليس الأول عملياً، لكنه يخرج إلى العلن بصورة غير مسبوقة.

فقد هاجم عبد الخالق عبد الله، مستشار إمارة أبو ظبي الأمير محمد بن زايد، المقرب من الإدارة الأمريكية، والصديق الشخصي لكوشنير، السلطة الفلسطينية، وهددها بأنه إذا لم تقبل بصفقة القرن، فستعلن إسرائيل عن ضم الضفة الغربية إليها، بل إنه اتهم صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بإصدار مواقف عنترية شعاراتية، لن تفيد القضية الفلسطينية، معتبراً رفض الفلسطينيين صفقةَ القرن مزايدات ساهمت في ضياع القضية الفلسطينية خلال العقود الماضية.

هاجم عبد الخالق عبد الله مستشار إمارة أبو ظبي الأمير محمد بن زايد السلطة الفلسطينية وهددها بأنه إذا لم تقبل بصفقة القرن فستعلن إسرائيل عن ضم الضفة الغربية إليها.

عدنان أبو عامر

لقد سبق هذا التراشق الإعلامي الفلسطيني العربي، بين السلطة الفلسطينية ودولة الإمارات تحديداً، خلاف سابق بين السلطة والسعودية، وتحديداً في نوفمبر 2017، حين شهدت علاقاتهما توتراً واضحاً عقب طلب ولي العهد محمد بن سلمان من محمود عباس دعم الرؤية الأمريكية للسلام مع إسرائيل، مما أسفر عن فتور في علاقاتهما، وتسبب بتوقف الدعم السعودي عن الفلسطينيين عدة أشهر، قبل أن يعلن الملك سلمان في يوليو 2018 عن دعم موقف الفلسطينيين من مستقبل الصراع مع إسرائيل، بعكس موقف ابنه الذي حاول فرض رؤيته عليهم.

تزامن هذا الاستقطاب الحاد في المواقف الفلسطينية والعربية من صفقة القرن، مع انعقاد مؤتمر وارسو الذي شهد تطبيعاً عربياً إسرائيلياً علنياً، من خلال حضور وزراء خارجية عدد من الدول العربية بجانب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، مما اعتبره الأخير إنجازاً سياسياً يُحسب له، في قدرته على حشد العرب بجانبه لمواجهة إيران، والقفز من فوق القضية الفلسطينية.

هذا الموقف العربي المتراجع، دفع الفلسطينيين للقول إن بعض الدول العربية تحصل على رشوة من واشنطن مقابل الحل الاقتصادي، بدلاً من الحل السياسي، والتطبيع المجاني مع إسرائيل بدلاً من محاصرتها، مما يعطي مؤشراً إيجابياً للأمريكان للمُضي بصفقة القرن.

تواصل مسلسل التمهيد العربي الرسمي لصفقة القرن مع تحفظ السعودية وحليفاتها خلال اجتماع الاتحاد البرلماني العربي في عمان أوائل مارس على بند يرفض التطبيع مع إسرائيل، لكن توفر رفض عربي لهذا التطبيع أطاح بالتحفظ السعودي.

الموقف العربي المتراجع دفع الفلسطينيين للقول إن بعض الدول العربية تحصل على رشوة من واشنطن مقابل الحل الاقتصادي بدلاً من الحل السياسي.

عدنان أبو عامر

كثيرة هي المؤشرات التي توضح أن واشنطن ماضية في تجنيد المزيد من الدول العربية الداعمة لها، وتجلت بعضها فيما سبق من أخبار، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الطريق باتت معبدة أمام ترمب وفريقه لإعلان الصفقة، لأن بيضة القبان فيها هما الطرفان المعنيان مباشرة بها: الفلسطينيون والإسرائيليون، وهما بحاجة إلى مزيد من تسليط الضوء على مواقفهما منها.

الفلسطينيون، حماس وفتح وباقي الفصائل، تعلن أنها ترفض الصفقة، وتندد بأي موقف عربي مروج لها، لكن الوقائع على الأرض قد تقدم دلالات متباينة، فالسلطة الفلسطينية تعاني أزمة مالية خانقة، بعد منع الدعم الأمريكي عنها، والقرار الإسرائيلي الأخير باستقطاع أموال المقاصة للضرائب عنها بحجة منحها مكافآت مالية للأسرى وعائلات الشهداء، ولا أحد يعلم كيف ستدير السلطة شئونها المالية بعد عجزها عن منح موظفيها في الضفة الغربية وقطاع غزة رواتبهم الشهرية عن شهر فبراير.

في الوقت ذاته، أعلنت السلطة الفلسطينية أنها قد لا تكون قادرة على دفع الرواتب لأجهزتها الأمنية بعد اقتطاع أموال المقاصة من قِبل الحكومة الإسرائيلية، وأنها ستدخل في أزمة مالية صعبة للغاية، قد تتسبب بمشاهدة المظاهرات الفلسطينية التي ستحتج على الوضع الاقتصادي؛ لأن القرار الإسرائيلي سيجبر السلطة الفلسطينية على إجراءات تقشفية ستشمل الأجهزة الأمنية.

لم يتردد قادة السلطة الفلسطينية عن التصريح علانية، ويا للمفارقة، بأنه بعد القرار الإسرائيلي باستقطاع أموالهم، لن تكون هنالك خدمة أمنية مجانية تقدمها لإسرائيل، فإذا أرادات الأخيرة أن تحافظ على مستوى التنسيق الأمني كما هو الحال عليه الآن، عليها أن توفي بمتطلبات واستحقاقات ما تمليه عليها الاتفاقات الموقعة بين الطرفين.

هذا يعني صراحة أن السلطة تحذر من تضرر التنسيق الأمني الفلسطيني الإسرائيلي، وربما تسعى لتجميده للضغط على إسرائيل، رغم الشكوك الكبيرة التي تحيط بقدرتها على اتخاذ هذا القرار، لأنه يعني فوراً رؤية بعض مشاهد الهجمات المسلحة من جديد في الضفة الغربية، وإمكانية أن نشهد في الفترة القادمة مظاهر فوضى أمنية فيها، وبداية تفكك تدريجي للسلطة الفلسطينية، بما يحقق مكاسب لحماس.

السلطة الفلسطينية وحماس اللتين تختلفان حول كثير من القضايا السياسية اتفقت أخيراً على الأقل ظاهرياً على رفض صفقة القرن واعتبارها مقدمة لتصفية القضية الفلسطينية.

عدنان أبو عامر

حماس من جهتها، تواصل تلقي المزيد من العقوبات على قطاع غزة التي يفرضها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مما يعني حشرها في الزاوية، لاسيما وأن القطاع يعاني أزمات معيشية طاحنة، تبدأ ولا تنتهي، وتسعى الحركة لمحاولة تفكيكها، تارة من خلال المنحة القطرية التي بدأت في نوفمبر، أو التفاهمات مع مصر لإدخال المزيد من البضائع والسلع عبر معبر رفح، ولجوء الحركة لزيادة معدلات الإيرادات الداخلية في غزة، رغم ما يسببه لها من تذمرات فلسطينية داخلية.

صحيح أن السلطة الفلسطينية وحماس، اللتين تختلفان حول كثير من القضايا السياسية، اتفقت أخيراً، على الأقل ظاهرياً، على رفض صفقة القرن، واعتبارها مقدمة لتصفية القضية الفلسطينية، لكن هذا الرفض الإعلامي يقابله، في الوقت ذاته، تبادل الاتهامات بينهما حول تورط كل طرف بتمرير هذه الصفقة.

فالسلطة وقادة فتح يزعمون أن استمرار سيطرة حماس على قطاع غزة، ورفضها إتمام المصالحة، وموافقتها على إتمام التفاهمات مع إسرائيل، بوساطة قطرية مصرية أممية، يسهم في إبقاء غزة منفصلة عن الضفة الغربية، ويجعلها معقل صفقة القرن، بل إن أوساطاً رفيعة المستوى في السلطة الفلسطينية، تحدث إليها كاتب السطور، لم تتوانَ في اتهام مصر بتشجيع حماس على الانخراط في الصفقة، ترغيباً أو ترهيباً.

في المقابل، تواصل حماس اتهامها للسلطة ورئيسها بأنهم عرابو هذه الصفقة من الناحية العملية، ولو أنهم على الصعيد الإعلامي يكررون رفضهم لها، ويقولون فيها ما لم يقل مالك في الخمر، لكن الوقائع على الأرض تجعل حماس ترى في السلطة شريكاً أساسياً في الصفقة، لاسيما من خلال إحكام الحصار على غزة، ودفعها لاتخاذ خطوات اضطرارية نحو تطبيق الصفقة على الأرض، وتعتقد حماس أن السلطة تقوم بدورها المناط بها في هذه الصفقة، كما تقوم إسرائيل ومصر وباقي الأطراف، وأن عليها مواجهتهم جميعاً، كل طرف بطريقتها الخاصة.

أخيراً .. ربما نجحت جولة كوشنير الأخيرة بتجنيد مواقف عربية رسمية لصالح واشنطن على حساب الفلسطينيين، مما يجعلهم يشعرون أنهم وحدهم أمام إدارة ترمب، لأن هناك من الدول العربية من تضغط عليهم لقبول الصفقة.

لكن الأوضاع الميدانية في الأراضي الفلسطينية قد لا تساعد كثيراً في إتمام جهود هذه الإدارة، فالضفة الغربية تعيش على صفيح ساخن في ظل عجز السلطة الفلسطينية عن صرف رواتب موظفيها، والقدس المحتلة تشهد غلياناً ذا صبغة دينية عقب نجاح الفلسطينيين بفتح باب الرحمة، والرغبة الإسرائيلية بالعودة لإغلاقه مجدداً، في حين تشهد تدهوراً تدريجياً على مستوى الوضع الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين بسبب تأزم الوضع المعيشي، ورفض إسرائيل الالتزام بتفاهمات التهدئة التي وُقّعت بحضور إقليمي ودولي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي