تابعنا
ينذر التصعيد التجاري والتكنولوجي بين الولايات والصين بإشعال حرب باردة جديدة تقضي على حالة التوافق الدولية، وتفتح الطريق أمام تآكل النظام الليبرالي، وتزايد النزاعات بين الأمم.

منذ أن أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن خطواتها التصعيدية ضد عملاق تكنولوجيا المعلومات الصينية شركة هاواوي، بدأ يتنامى في التغطية الإعلامية ظهور بعض المصطلحات من أبرزها "الحرب البادرة التقنية أو التكنولوجية" The Tech Cold War.

ويبرر تنامي هذا المصطلح السياق الذي جاء فيه قرار الرئيس ترمب التنفيذي والقاضي بفرض حالة الطوارئ الاقتصادية لحماية شبكات الاتصالات الأمريكية من التجسس التي تشنها جهات محسوبة على الصين منها أنشطة الشبكة التي تقوم بتشغيليها داخل الولايات المتحدة شركة هاواوي. وهذا يندرج بطبيعة الحال ضمن سياق التصعيد بين واشنطن وبكين والمتمثل في الحرب التجارية والتكنولوجية بينهما والتي بدأت بزيادة التعريفة الجمركية منذ ما يقرب من العام من الآن.

يذكرنا إعلان الرئيس ترمب لحالة الطوارئ الاقتصادي بإعلانه السابق لحالة الطوارئ الوطنية والتي أراد بها التحايل على الكونجرس من أجل استكمال تمويل الجدار الفاصل على الحدود مع المكسيك من أجل صد الخطر المتخيل إليه والمتمثل في تدفق المهاجرين من أمريكا الجنوبية الذين يحلوا للرئيس دوماً أن يصفهم "بالغزاة".

الاعتمادية الكبيرة التي تفرضها العولمة بين دول العالم تستوجب النظر في التعامل مع الدول الكبرى من منطلق الدبلوماسية والحلول المشتركة وليس من خلال لعبة كسر العظم.

إقبال حسين

ومن شأن انتهاج مبدأ الإعلانات المتكررة والمتنوعة لحالة الطوارئ إخبارنا الكثير عن الحالة النفسية للرئيس ترمب المسكونة بهاجس الخوف من الآخر، وعن الأجندة التي يحملها فريقه من عتاة اليمين الشعبوي الذين يحيطون به القائمة على سياسة القوة، والحلول أحادية الجانب في التعاطي مع المشكلات التي تهدد الولايات المتحدة. وهذه السياسة هي التي تجعل من واشنطن شرطي العالم الذي لا يبالي بالقانون ولا بالأعراف الدولية.

لا شكّ أن هناك تحدٍّ واضح يفرضه صعود الصين على هيمنة الولايات المتحدة، ولكن يتجاهل الرئيس ترمب وفريقه حقيقة أن الاعتمادية الكبيرة التي تفرضها العولمة بين دول العالم تستوجب النظر في التعامل مع الدول الكبرى من منطلق الدبلوماسية والحلول المشتركة وليس من خلال لعبة كسر العظم.

إن فرض العقوبات التقنية على الشركات الصينية، ووضعها على القائمة السوداء، وفرض حظر على الشركات الأمريكية والأوروبية والتي تدور في فلكها من التعامل معها إنما يعزز من التوجهات الانعزالية والحمائية التي تتبناها إدارة الرئيس ترمب.

وهي التوجهات التي تتساوق مع فلسفة تيارات اليمن الشعبوي في كل مكان تقريباً وتقوم على مبدأ إقامة الجدران والمتاريس بين الأمم والشعوب إيماناً منهم بأن هذه هي الطريق الوحيدة في مجابهة الخطر الخارجي؛ في تعارض صارخ مع مبادئ النظام الليبرالي الذي أقامته الولايات المتحدة ودافعت عنه طيلة أكثر من سبعة عقود؛ أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

إن فرض العقوبات التقنية على الشركات الصينية ووضعها على القائمة السوداء إنما يعزز من التوجهات الانعزالية والحمائية التي تتبناها إدارة الرئيس ترمب.

إقبال حسين

إن سياسة الرئيس ترمب تجاه الصين في حربه التجارية والتقنية معها من شأنه أن يعيد العالم إلى التقسيمات السابقة التي كانت سائدة إبان الحرب البادرة بين المعسكرين الشرقي والغربي. ولكن لا يتم التقسيم هذه المرة وفق الخطوط الجيوسياسية والعسكرية–الأمنية وإنما وفق الخطوط الاقتصادية والتكنولوجية.

فالعالم الذي وقف أمام حتمية الاختيار سابقاً بين الانضواء تحت مظلمة الحماية النووية الرأسمالية للولايات المتحدة أو مظلمة الحماية النووية الشيوعية للاتحاد السوفيتي يقف الآن أمام حتمية اختيار جديدة: بين النموذج الرأسمالي المنفتح للتكنولوجيا الغربية، أو النموذج الشرقي المغلق للتكنولوجيا الصينية.

ربما تبدو إرهاصات هذا الاختيار الصعب قد بدأت تطل برأسها مع استجابة بعض كبريات الشركات التكنولوجية للأمر التنفيذي للرئيس ترمب. فمن جانبها قالت شركة Alphabet Inc. Goodge إنها سوف توقف تعاملاتها مع هواوي بما في ذلك الحد من وصول الشركة الصينية إلى نظام تشغيل الهاتف المحمول الذي يعمل بنظام أندرويد Android. كما أوقفت شركات الاتصالات في كل من اليابان وبريطانيا وتايوان طلبات شراء أحدث أجهزة هواوي. أما شركة مايكروسوف فقد حظرت منتجات هواوي من الظهور في موقعها للبيع الإلكتروني Azure Stack، بينما قالت كل من شركة سوفتبانك البريطانية وإفنيوين الألمانية لصناعة الرقائق بأنهما ستدرسان إيقاف التعامل مع شركة هواوي؛ خصوصاً فيما يتعلق بالوصول إلى بعض الملكيات الفكرية المستخدمة في تصنيع أشباه الموصولات.

إن سياسة الرئيس ترمب تجاه الصين في حربه التجارية والتقنية معها من شأنه أن يعيد العالم إلى التقسيمات السابقة التي كانت سائدة إبان الحرب البادرة بين المعسكرين الشرقي والغربي.

إقبال حسين

سيعتمد تبلور حدود هذه المعسكرات المتنافسة حديثاً على عاملين حاسمين:

أولا، قدرة الصين على تجاوز الحظر التكنولوجي الغربي، وسد الثغرات التكنولوجية في صناعاتها من خلال الاعتماد على الصناعات المحلية، وذلك من أجل أن تجعل نموذجها التكنولوجي أكثر جاذبية وتكاملاً.

وهنا تشهد التجربة أن الصين قد قطعت مراحل جوهرية في تطوير تكنولوجيا ذاتية. فعلى سبيل المثال طورت الصين محرك بحث خاص بها على غرار Google يدعى بيدو baidu. كما طورت منصات تواصل اجتماعي خاصة بها مثل com.51 وRenren، أما موقع weibo فهو النسخة الصينية من تويتر. هذا فضلاً عن تقدمها الواضح في مجال تطوير الجيل الخامس من الشبكان G5، وتكنولوجيا الفضاء، وهندسة الجينات.

ستعمل الصين على تعزيز موقفها هذا من خلال استثمار أمرين اثنين في غاية الأهمية يتعلق أولهما بالاستراتيجية التجسسية التي طورتها الصين على مدار عقود، واستطاعت من خلالها سرقة معلومات تكنولوجية، وملكيات فكرية غاية في الحساسية من الغرب. هناك بعض التقديرات تشير إلى أن خسائر الولايات المتحدة من سرقة الملكية الفكرية يصل سنوياً إلى 100 مليار وأكثر. أما ثاني هذين الأمرين فيتعلق بالنموذج الصيني للإنترنت والذي تغلب عليه ثقافة التحكم المركزي والخضوع للمراقبة وهو النموذج الذي يروق للحكومات غير الديمقراطية؛ وهو النموذج السياسي الذي يشهد تنامياً حالياً. لذلك ستجد الصين سهولة في تسويق نموذجها التكنولوجي المعادي لحرية التعبير في الدول التي يسعى حكامها لفرض حالة من الرقابة الشديدة على المعارضين والمطالبين بالتحول الديمقراطي خصوصاً في العالم العربي.

ثانياً، ستعتمد حدود تنافس هذه المعسكرات على بقاء نفوذ تيارات اليمين في الحكم خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية. وبذلك فإن التجديد للرئيس ترمب لولاية ثانية، وتحقيق اليمين مزيد من الانتصارات في أوروبا، سوف يسهم في تآكل النظام الليبرالي، وينحو بالنظام الدولي نحو حكومات يروقها أن تفرض عقبات أمام التدفق السلس والآمن للأفكار، والبضائع، والبشر، جنباً إلى جنب مع إضعاف القانون الدولي والمنظمات الدولية. وهذا من شأنه أن يعزز مناخ الصراع والتنافس بين الدول الكبرى، ويفرض على الدول المتوسطة والصغيرة أن تختار مع أي من هذه القوى لا بد لها أن تصطف، وبالنتيجة فنحن أمام توجه يذهب بنا إلى تقطيع الأواصر بين الشعوب والأمم، وهذا بلا شك سيكون محفزاً لمزيد من الصراعات وعدم الاستقرار.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً