صورة تُظهِر محتجين يرفعون شعار جماعة الإخوان المسلمين (TRT Arabi)
تابعنا

لعل أبرز ما أسفر عنه العقد الأخير من تاريخ المنطقة أن الشعوب العربية التي ترزح تحت أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية الخارجية لم تكن تمتلك قوى شعبية منظمة ومتماسكة، وتملك مشاريع تغيير حقيقية وبرامج تنمية واقعية. وبشكل نسبي، بدا الإسلاميون الذين يملكون تنظيمات عريقة وممتدة وفوق قطرية أكثر القوى الشعبية ترشُّحاً للتقدم في الدول التي شهدت انتفاضات شعبية أدت إلى سقوط رؤساء في أنظمة عربية عدة. هذا التقدم الذي بدا منطقيّاً للإسلاميين جعل منهم طرفاً رئيسيّاً في ساحة الصراع مع الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة ومع المنظومات الإقليمية والدولية التي ترغب في استمرار مصالحها في المنطقة ولم يجدوا في الإسلاميين سبيلاً لتحقيقها.

الانقلاب في مصر واللحظة الفارقة

ومنذ لحظة الصدام بين الأنظمة التقليدية والإسلام السياسي، التي شكّل انقلاب الثلاثيين من يونيو في مصر لحظة فارقة فيها، بدا واضحاً أن معالم البيئة السياسية الإقليمية في المنطقة تتجه نحو نظام إقليمي قائم على تحالف القوى الرافضة للتغيير والرافضة لقوى الإسلام السياسي السني تحديداً، وهي السعودية والإمارات ومصر بشكل رئيسي، مدعومة من الولايات المتحدة الامريكية التي أمّنت دخول إسرائيل على هذا التحالف.

بالإضافة إلى ذلك، كان المحور الذي تقوده إيران والذي يسجّل حضوراً ميدانيّاً وسياسيّاً واستراتيجيّاً واسعاً في المنطقة قد بنى تصوُّره للأحداث في المنطقة انطلاقاً من نظرية مفادها أن حالة السيولة والفوضى في المنطقة ستتيح المجال للفاعل الدولي خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز نفوذها على حساب مصالح القوى الرئيسية فيها، وأن ذلك سيصبّ في نهاية المطاف في صالح تعزيز قوة إسرائيل في المنطقة وجعلها محور الأمن الإقليمي الذي يخدم المصالح الأمريكية. هذه النظرية وما بُني عليها من سلوك جعل المحور الإيراني الذي يعبّر بشكل كبير عن الإسلام السياسي الشيعي -مجازاً- في أولويات الاستهداف لمحور الثورة المضادة المدعوم أمريكياً والمتحالف مع إسرائيل تماماً.

مُنِيَت قوى الإسلام السياسي السُّنّي بهزيمة قاسية وشنّت عليه حملة منظمة استهدفت وجوده في دول التغيير العربي، وحيل بينه وبين الوصول إلى السلطة. ورغم ذلك ما زال تحالف الثورة المضادة مستمرّاً في حربه ضد هذه القوى ومنع قيام أي بيئة من الحرية والاستقرار تسمح بوجود قوى للإسلام السياسي السني في أي من دول المنطقة.

في 28 من شهر أغسطس/آب الفائت قامت طائرات التحالف العربي الذي تقوده السعودية والمدعوم أمريكيّاً بقصف قوات حكومة الرئيس هادي (المتحالفة معها) و التي كانت متجهة نحو مدينة عدن لوقف سيطرة قوات المجلس الانتقالي المدعومة إماراتياً على المدينة ومدن الجنوب اليمني الأخرى. وقد حال القصف دون تقدُّم قوات "الحكومة الشرعية" نحو المدينة. ما كانت تعلمه طائرات التحالف العربي (الإمارت تحديداً) جيداً أن هذه القوات هي قوة حزب الإصلاح اليمني (الإخوان المسلمين في اليمن) الذي تَعرَّض لضربة مؤلمة أسفرت عن مقتل مئات من كوادره، حسب مصادر في حكومة هادي. 

وحملت طائرات هذا التحالف الأموال لدعم الانقلاب في مصر وإنهاء التجربة الديمقراطية المصرية في مهدها. وتَحُول أموال وأسلحة وطائرات هذا التحالف أيضاً دون طموحات وآمال الشعب الليبي في الحرية والاستقرار. لقد حدد تحالف الثورة المضادة أهدافه مبكّراً منذ انطلاق الثورات الشعبية العربية، إذ سعت دول الثورة المضادة لتحطيم آمال الشعوب بالعيش بحرية وكرامة واستقلال بالدرجة الأولى، ومواجهة قوى الإسلام السياسي بصفتهم القوى الشعبية الأبرز في ذلك الوقت والحيلولة بينهم وبين الحكم.

وفي الجانب الآخر شكّلَت الأزمة السورية فرصة سانحة لتحالف الثورة المضادة وحليفها الأمريكي لإحداث هوة واسعة في المحور الذي كانت تقوده إيران، واستطاعت أن تجعل سوريا بؤرة لاستنزاف إيران وحلفائها. إلا أن إيران، وهي المعبّر الأبرز عن الإسلام السياسي الشيعي، استطاعت مع حلفائها في سوريا واليمن ولبنان الصمود في معادلة القوى الإقليمية وحال ذلك دون انفراد استراتيجي لتحالف الثورة المضادة المتحالفة مع إسرائيل في المنطقة. إلا أن ذلك استدعى تدخُّلاً أمريكياً مباشراً تقوده إدارة ترامب للضغط على إيران وحلفائها، وعنوان ذلك الضغط العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على إيران وحلفائها.

فبعد انساحبها من الاتفاق النووي مع إيران وفرضها عقوبات اقتصادية عليها، شهدت الأسابيع الأخيرة نشاطاً أمريكياً بارزاً في ملاحقة النشاط المالي والتجاري لإيران وحلفائها وبالتحديد حزب الله وحماس، إذ فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على مجموعة من المسؤولين الإيرانيين وقيادات في حزب الله وحماس وأدرجت مجموعة من الشركات التجارية في قوائمها "لمكافحة الإرهاب".

وفي نفس السياق، لم تتوقف الطائرات الإسرائيلية عن استهدافها لمواقع إيران وحلفائها في سوريا ولبنان والعراق بحجة منع تهريب السلاح لحزب الله اللبناني. وهي الضربات التي تحظى بغطاء أمريكي واسع،إذ يعلن كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل باستمرار رفض الوجود الإيراني في سوريا.

تحالف الثورات المضادة

يشير سلوك دول تحالف الثورة المضادة المدعومة أمريكياً إلى رسالة واضحة مفادها أن جبهة متحدة تضرب من قوس واحدة تستهدف قوى المنطقة الحية، وفي القلب منها الإسلام السياسي السني والشيعي على حد سواء، وأن مشروعاً واحداً يجب أن يسيطر على المنطقة ويحدّد شكلها ومستقبلها، وهو المشروع الأمريكي المتحالف مع قوى الثورة المضادة وإسرائيل.

خلاصة المشهد أن الإسلام السياسي السني والشيعي وحلفاءه في مواجهة مصيرية مع المشروع الأمريكي وحلفائه في المنطقة الذي يهدّف إلى إضعاف القوى الإقليمية كافة واستنزافها وإعادة رسم البيئة الاستراتيجية في المنطقة وجعل إسرائيل سيدة المنطقة. ولكن يخوض كل من الإسلام السياسي السني والشيعي المواجهة منفرداً، وهو ما يتيح للقوى الأجنبية المعادية لشعوب المنطقة ومصالحها أن تفرض خياراتها على الجميع وأن تطيل أمد سيطرتها على المنطقة.

الإسلام السياسي السني والشيعي: نقاط الإلتقاء

يعبِّر كل من الإسلام السياسي السني والشيعي عن قطاع عريض وواسع وقد يكون الأكثر انتشارا في شعوب المنطقة، ويشتركان في رفضهما المشروع الأمريكي في المنطقة، ولكنهما قد اختلفا في سوريا واليمن بشكل رئيسي. إلا أن المشهد في سوريا واليمن يشير إلى أن أيّاً منهما لم يحرز تقدُّماً حاسماً فيهما، وأن القوى العاملة في ضوء المشروع الأمريكي تحظى بدور متقدم وتفرض خياراتها على مستقبل هذين البلدين المهمين استراتيجيّاً لأمن المنطقة والحفاظ على مصالح شعوبها.

في المقارنة بين مستويات الاتفاق والاختلاف بين الإسلام السياسي السني والشيعي نجد أن مستوى الاتفاق يأتي في الإطار الاستراتيجي للمنطقة الذي يهدف إلى منع استسلامها تماماً للنفوذ الأمريكي والغربي مجدداً وإبقاء الحق لأهل المنطقة في إدارة شؤونها وتحقيق مصالحهم العليا. فيما يكمن مستوى الخلاف في الإطار التنافسي بين قوى تعيش في منطقة واحدة، وهو أمر متفهَّم ويسهل إيجاد آليات لتجاوزه. وقد تحولت حالة التنافس هذه إلى استنزاف يخدم الخصوم والأعداء.

إن استمرار حالة الاستنزاف هذه المصاحبة للضغط الخارجي على الفريقين سيُسفِر في الغالب عن هزيمة الطرفين لصالح القوى الخارجية وضد مصالحهما العليا. والعكس بالعكس، فوقف حالة الاستنزاف والدخول فوراً في حوار استراتيجي معمَّق بين قوى المنطقة الحية سيقلّل الدماء والخسائر، وسيتيح الفرصة لمنع تغوُّل تحالف تجلس إسرائيل في وسطه ويعمل ضدّ مصالح شعوب المنطقة وتطلُّعاتها.

إن مصلحة المنطقة وشعوبها بحاجة إلى تغليب العقل السياسي والحكمة، وتعطيل العقل الطائفي. إن هذا الحوار المأمول تتحمل مسؤوليته في الدرجة الأولى الجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة وكبريات الحركات الإسلامية السنية من جهة أخرى.

ومن المحتمل أن يحظى هذا الحوار بدعم حلفاء الطرفين من دول وجماعات، وهو ما يعني تشكيل جبهة عريضة تنتمي إلى هذه المنطقة وتؤمن بحقها في النهوض. ومن المتوقع أن يؤثر هذا الحوار إيجابيّاً على أزمات كالأزمة اليمنية والسورية ويوقف حالة الاستنزاف التي تتعرض لها شعوب المنطقة هناك. لهذا الحوار متطلب أساسي هو القناعة المشتركة بتحديد أعداء وخصوم المنطقة وشعوبها والسعي لاستقلالها عن هيمنة خارجية والاعتراف بأحقية شعوبها في العيش الكريم والحر.

وقد يشير البعض إلى أن هذه الخطوة قد تأخرت وأن الزمن صنع بين الطرفين ما صنعه الحداد، لكن الاستسلام لهذا المنطق يعني شيئاً واحداً، هو استمرار نزف دماء شعوب المنطقة واستنزاف قواها وإتاحة المجال واسعاً لأعدائها ليقرروا مصيرها لقرن قادم من الزمن على الأقل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً