تابعنا
اللحظة الديكتاتورية الحديثة في الدول العربية لم تكن سرمدية قديمة، ولم تُستجلب أيضًا، لكنها مزيج مركّب من آليات شرعنة تقليدية، وأساليب سيطرة حديثة.

كثير من المستشرقين الذين تحدث عنهم إدوارد سعيد وآخرون، خصوصاً الذين اهتموا بالمجال السياسي في التاريخ الإسلامي، يقرأون التاريخ الإسلامي ضمن وحدة شاملة للأنظمة الشرقية السياسية في العصور الوسطى حسب التقويم الغربي.

هذه الوحدة الشاملة تتعامل مع الأنظمة ما قبل الحديثة على أساس أنها "ديكتاتورية شرقية"، يقوم فيها الحاكم بكل السلطات ويمارس كل الولايات، ويتغول في كل المجالات، فبالتالي هو الحاكم بأمر الله وأمر الناس، وهو "ظل الله في الأرض"؛ ولذلك يكثر التركيز على دراسة هذا الجانب وتلك الألقاب كجزء من حزمة الأوسمة التي يخلعها الديكتاتور على نفسه في التاريخ.

في العقود الأخيرة، برز تيار آخر أضحى أكثر وضوحاً يرى أن التفسير النمطي للسياسة الإسلامية في التاريخ ضمن خلفية ما يسمى بـ"الديكتاتور الشرقي" التي يطبقونها على الشرق الأقصى والصين وروسيا وغيرها لا تنطبق على الحالة الإسلامية في القرون الوسطى.

باحثون مثل هاتينا وهيرفتز ووائل حلاق وغيرهم إضافة إلى محمد زمان أصبحوا يرون مجالاً كبيراً في العمل السياسي في التاريخ الإسلامي يجب أن يصنّف بكل اقتدار على أنه "مجال عام" لا يتحكّم فيه السياسي، ولا يتدخّل إلا بالحد الأدنى ضمن شروط يفرضها المجال العام نفسه، وضمن قيم ومبادئ المجال العام نفسه الذي صنعها وحررها المشتغلون فيه.

المجال العام والسلطان في التاريخ الإسلامي

هذا المجال العام كُتبت فيه عشرات الكتب والبحوث منذ الدور البارز لهابرماس في تحديده وتقييمه، فكانت دراسة التاريخ الإسلامي السياسي مختلفة؛ لأن هذا الخليفة/السلطان في التاريخ لم يكن يمارس القانون ولا يشرّعه، ولا يصنع النظام، ولا يتحكّم في المجال التعليمي، ولا يسيطر على الإعلام والثقافة، ولا حتى الاقتصاد؛ بل وفي عصور مختلفة في التاريخ الإسلامي، لا يملك حتى جيشاً يتبع االدولة بل عبارة عن مجموعات شعبية تقوم ضمن عقد مضمر وبدوافع دينية بممارسة القتال.

فالسلطان/الخليفة بهذا المنطق يتحكّم في مجال محدد وصغير ونسبي ومضبوط بشروط لم يصنعها هو؛ بل وربما لم يشارك في صناعتها، فعلى الرغم من كل ما يمكن أن يقال عنه؛ إلا أنه حاكم قد نزعت منه كل آليات السيطرة المهمة، وبقي يحكم مساحة إدارية وسياسية لا يمكن وصفها في أي حالة معاصرة بـ"الديكتاتورية" مقارنة بالأنظمة الحديثة ونظام الدولة الحديثة.

الحديث تاريخياً عن هذه السردية يجب أن لا يجرّنا إلى تفاصيل مختلفة حول التجربة التاريخية تلك؛ لأن هذا ليس مجال الحديث، إنما نقطة الحديث هنا، هي أن اللحظة المعاصرة في الدول العربية والإسلامية خلقت اللحظة الحقيقية للديكتاتورية حين سحبت النموذج التاريخي بأدبياته ورمزياته وآليات الشرعنة السياسية وطبّقت كل ذلك على دولة جلبت من "الدولة الحديثة" أشكال التغوّل السياسي، فجمعت بين حكم الفرد المطلق وغياب الديمقراطية وتداول السلطة والسيطرة على كل المجالات العامة في شبه إلغاء للمجال العام ومؤسسات المجتمع المدني الطبيعية.

هنا في هذه اللحظة بالتحديد وُلِدت اللحظة الديكتاتورية فعلاً في العالم العربي.

لحظة ولادة الدكتاتورية العربية الحديثة

وفي هذه اللحظة الديكتاتورية نفسها، لم تُعتبر تجربة الدولة الحديثة نفسها التي تطورت في مناطق مختلفة من الأرض في محاولة توازن السلطات، واستقلال القضاء، وإتاحة المجال لمؤسسات المجتمع المدني، والعمل الأكاديمي والإعلامي في بعض الحالات.

بمعنى أن الدولة الحديثة في العالم العربي والخليج تحديداً أخذت من الدولة الحديثة تغوّلها وتدخلها في كل القطاعات والمجالات وإضعاف المجال العام.

وأخذت من الدولة الشرقية القديمة "حكم الفرد الدائم"، فلا هي تبنّت آليات التوازن في السلطة الحديثة مثل فصل السلطات ووجود التمثيل البرلماني والشعبي واستقلال القضاء وغيرها، ولا هي حافظت على نظام الدولة القديم في التاريخ الإسلامي الذي لا يتدخل في معظم مجالات الحياة من الاقتصاد والتشريع والدين بل وحتى الجيش.

كانت الدولة القديمة في التاريخ الإسلامي -على الرغم من مشاكلها- دولة مترامية الأطراف تركت أغلب الهوامش للناس عبر أسواقهم التجارية التي لا يديرها ولا يتحكم فيها الحاكم أو الدولة، وعبر مدارسهم وأوقافهم التي لا يحتكرها الحاكم ولا يديرها، وعبر تشريعهم وفقههم المستقل، وعبر قضائهم الذي يتطور ويعيّن من بين هؤلاء الفقهاء المستقلين، وغيرها.

فكل هذه الميزات لم تحصل في الدولة العربية الحديثة، كذلك فإن الدولة العربية الحديثة في الغالب أيضاً لم تتبنَّ آليات التوازن والتمثيل الشعبي التي وُجدت مع دول حديثة ديمقراطية.

فالفكرة هنا أن الديكتاتورية الحديثة صناعة خليط شاذ من دولة حديثة من ناحية مجالات السيطرة على مجالات مختلفة، ودولة قديمة من حيث آليات حكم المتغلّب؛ فأصبحت "دولة خنيثة" لا هي دولة حديثة، ولا دولة تاريخية عريقة.

اللحظة الديكتاتورية لم تكن سرمدية قديمة، ولم تُستجلب أيضاً، لكنها مزيج مركّب من آليات شرعنة تقليدية، وأساليب سيطرة حديثة، وفي كل الأحوال، هذه اللحظة تعوق بناء المجال العام، وتقضي على عمليات العمل العلمي والأكاديمي والثقافي والقانوني غير الرسمي؛ لذلك هي لحظة مخيفة، لن تبعث على الاستقرار الحديث، ولا على التوزان القديم بين السلطات.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي