تابعنا
بعد ثماني سنوات على الربيع العربي يعود الحراك من جديد آخذاً شكلاً اجتماعيّاً، لتقفز القضايا المتعلقة بلقمة العيش الناجمة عن سوء توزيع الثروة إلى الواجهة من جديد.

قبل ثماني سنوات انفجر العالم العربي كما لو أنه بركان كان يبدو خامداً، ليُلقي بحمَم غضبه في ما سُمِّي بالربيع العربي. كان "الربيع" تعبيراً عن حنق ضد منظومة متكلِّسة، تعتمد على أوليغارشيات تُوظِّف آلة أمنية رهيبة، وتستخدم بنية تقنية، هي ما يُتَّفق على تسميته بالدولة العميقة. اهتز هذا العالم الذي كان يُنظر إليه من قِبل الغرب باعتباره غير قابل للانخراط في قيم العصر، ليطالب بالحرية والكرامة.

فار الشارع وطوَّح بأنظمة عتيدة، وانبلج الأمل بعد ليل عتيد، ثم حدث ما يلازم كل ثورة، الثورة المضادة، وتم الالتفاف على براعم الربيع، تغيرت أسماء ظاهرة الثورة المضادة، لتفيد شيئاً واحداً، إجهاض أحلام مشروعة. قيل حينها مثلما كتب الأكاديمي الأردني مروان المعشر، بأن اليقظة العربية الأولي التي انبلجت مع بداية القرن الماضي، كانت شأن نخبة من دون جماهير، وأن اليقظة العربية الثانية التي برزت معالمها مع الربيع العربي، شأن جماهير من دون نخبة. ولكن من العسير تبنِّي هذا الطرح والقول بغياب النخبة. المشكل هو في وجود بنيات قائمة تأبى النخبة وتعارضها بل وتفتنها.

من المرشح أن يؤثر تمرد السترات الصفراء في فرنسا على الحركات الاحتجاجية في البلدان المغاربية، مثلما ظهر ذلك مع أصحاب السترات الحمراء في تونس، أو السترات السوداء في المغرب.

حسن أوريد

ثماني سنوات بعد تلك الفترة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، حيث سرت عبر العالم كلمات "ميدان التحرير" وتعابير "الشعب يريد إسقاط النظام"، و "ارحل"، و "لا للفساد والاستبداد"، يعود حَمم الربيع العربي في ثوب جديد وأسلوب جديد، يتلبَّس القضايا الاجتماعية التي تمَس المواطن في مصدر العيش. تقفز القضايا الاجتماعية في سُلَّم الأولويات. في تونس والأردن والمغرب ومصر والجزائر. ثماني سنوات، تعود القضايا الاجتماعية، وتجد لها صدىً في انشغالات الضفة الشمالية لحوض البحر الأبيض المتوسط، خاصة مع تمرُّد أصحاب السترات الصفراء في فرنسا. ومن المرشح أن يؤثر تمرد السترات الصفراء في فرنسا على الحركات الاحتجاجية في البلدان المغاربية، مثلما ظهر ذلك مع أصحاب السترات الحمراء في تونس، أو السترات السوداء في المغرب.

لا جدال في أن ما يعيشه العالم العربي من توترات اجتماعية، ناتج بالأساس عن إخفاق الليبرالية الجديدة. لقد كانت الليبرالية الجديدة كما طُبِّقت في بلدان الربيع العربي، تعتمد على ما سمي بتوافق واشنطن، وهي حزمة من الإجراءات المالية والاقتصادية كانت تفرضها مؤسسات البنك العالمي والصندوق الدولي، تقضي بتحرير الاقتصاد والخصخصة، والتحرر من القطاعات الاجتماعية، يصاحب هذا "التوافق"، ما سمي بنظر الانسياب، أي أن خلق الثروة ينتهي بتعميمها على كافة الشرائح. والذي حدث، ليس في العالم العربي وحده، هو أن الليبرالية الجديدة، أفضت إلى إثراء الأثرياء، من دون الارتقاء بالفقراء، مع بعض الإجراءات التي تستهدف التخفيف من التوترات الاجتماعية، إما من خلال شراء السُّلم الاجتماعي، بالنسبة لبعض الدول البترولية، برفع الأجور، أو تغطية بعض النفقات الاجتماعية، كما حدث في الجزائر والسعودية، أو بعض عمليات البر والإحسان، لعمليات توزيع بعض المساعدات لفائدة الشرائح الفقيرة، كما في الأردن والمغرب.

الغليان الاجتماعي في العالم العربي مرجعه مرض الاقتصاد العربي واختلال ميكانزمات التوزيع العادل للثروة.

حسن أوريد

لكن تلك الإجراءات كانت تلتفُّ في الحقيقة على القضية الجوهرية، وهي التوزيع العادل للثروة. لا يمكن لمنظومة أن تستمر في ظل اختلال اجتماعي واقتصادي، مهما كانت الاعتبارات، من قبيل الفاعلية والانخراط في التوزيع العالمي للإنتاج، وما طرحته قضية السترات الصفراء في فرنسا من تغليب التضامن على الفاعلية، يحق بدرجة أولى على بلدان العالم العربي. الأولوية ليست هي خلق الثروة، ولكن حسن توزيعها.

الغليان الاجتماعي في العالم العربي، بدرجات متفاوتة، مرجعه مرض الاقتصاد العربي بالإضافة إلى اختلال ميكانزمات التوزيع العادل للثروة. لم تستطع الاقتصاديات في العالم العربي أن تنخرط في التوزيع العالمي للإنتاج، وظلت اقتصاديات ريعية، لا تُنتج الثروة، ومن ثم لا تستطيع استيعاب جحافل الشباب العاطل التي تزداد سنة عن سنة. توزعت اقتصاديات العالم العربي بين دول بترولية، تعتمد على وضع الريع الذي يتيحه البترول، وانتهت إلى ما يسمى في الاقتصاد بالداء الهولندي، وهو وضع الريع الذي يفرضه مصدر ما، مما يؤثر سلباً على القطاعات الأخرى، كما الفِلاحة في بلدان زراعية مثل العراق والجزائر التي تم التضحية بها في البلدين بسبب الوضع الريعي الذي يتيحه البترول. أما الدول غير البترولية، فقد رضخت للمؤسسات المالية الدولية التي فرضت عليها توجهاتها التي يمليها منطق أي بنك، ولا يهمها التضحية بالقطاعات الاجتماعية. هذا فضلاً عن انعدام المنافسة الحرة، في كافة بلدان العالم العربي، وضعف الاندماج الإقليمي، والتبادل البيني.

استطاع الغضب الشعبي في العالم العربي أن يوظف وسائل التواصل الجديدة، ويكسر احتكار الإعلام الرسمي، ويجعل منه أداة للتعبئة.

حسن أوريد

استطاع الغضب الشعبي في العالم العربي أن يوظف وسائل التواصل الجديدة، ويكسر احتكار الإعلام الرسمي، ويجعل منه أداة للتعبئة. في المغرب نجحت حملة مقاطعة بعض المواد ضد بعض المقاولات الضخمة، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وكبَّدت المقاطعة تلك، المقاولات خسائر كبيرة. ولكن من العبث اعتبار تلك الوسائط هي سبب التوتر والذهول عن مصدر الداء وهو سوء توزيع الثروة. سبق لملك الأردن عبد الله الثاني قبل شهر ونيف أن كتب مقالاً يلقي فيه باللائمة على مُروِّجي الأخبار الزائفة، وهو سؤال مشروع، ولكن هل ينفي ذلك التفاوتات الاجتماعية والمقامرة بمصير شعب؟ وسبق لملك المغرب محمد السادس أن نادى في خطاب "أين الثروة ؟"، ولكن سؤال الملك لا يُعفي من سؤال آخر، رفعته الجماهير وقوىً حرة، هل يستقيم الجمع بين السلطة والثروة.

في سابقة تشبه ما يعرفه العالم حاليّاً، تحيل إلى أزمة 1929، توزَّع العالم بين خيارين، خيار وظَّف الغضب لينتهي إلى أنظمة فاشية، تُمجِّد القوة وتعتمد صلابة التنظيم، أغرت الجماهير لفترة، ثم ألقت بها في أتون الحرب العالمية الثانية، وخيار الخطة الجديدة التي أنتجها الرئيس الأميركي روزفلت، إذ اضطلعت الدولة بدور التوازن وأعادت النظر في الليبرالية الهوجاء. الخيار الثاني يبدو مغرياً طبعاً. ولكن يفترض شيئاً هو بمثابة الكبريت الأحمر، وهو قدرتنا على التفكير. فجامعاتنا ومؤسساتنا العلمية في شبه بطالة، إلا في الحالات التي تستطيع فيه بعض العناصر الانفلات من أوضاع مثبطة، لتشتغل في مؤسسات دولية أو أجنبية. ولا مخرج من هذا الوضع المعضل، حيث ثبت فشل "الدولة القومية"، إلا في إطارات فكرية تتجاوز تقسيم "الدولة القومية" لرفع التحديات التي ما انفكَّت الجماهير تطرحها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي

TRT عربي
الأكثر تداولاً