تابعنا
لوقت طويل كنا ولا نزال منشغلين جداً بفهم وتفكيك ومعرفة كيفية التعامل مع أنظمة التتبع والمراقبة التي تفرضها علينا شركات التكنولوجيا العملاقة فضلاً عن الحكومات.

منذ مطلع الألفية ومع النموذج الاستثماري الذي تبنته شركة Google عبر متصفح البحث التابع وتمحور بالأساس حول جمع بيانات المستخدمين بكل دقة وتحويلها إلى "بيانات سلوكية" وبيعها لطرف ثالث بغرض استخدامها كمواد أولية في عمليات الإعلانات التجارية، أصبحت الخصوصية تتآكل رويداً رويداً.

لقد أصبحت الشركات التكنولوجية العملاقة ومن خلال ما توفره من تطبيقات مجانية آلة عملاقة للمراقبة وجمع البيانات وانتهاك الخصوصية. والأمر لا يتعلق فقط بجمع البيانات العامة، بل على العكس، جميع تحركات المستخدمين صغيرها وكبيرها، كل ما يتعلق بتفاصيل حياتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم يجري رصده وتخزينه ثم إدراجه في برامج تنميط باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي لتحديد أنماط شخصياتهم لكي يسهل استهدافهم بالإعلانات التي يرغبون رؤيتها هنا تتحول الذات البشرية إلى مجموعة من البيانات يتم تحليلها لأغراض تجارية وأمنية. وعليه فليس أمراً مستغرباً أن يتحدث أحدنا عن سلعة ما أمام صديقه، ويتفاجأ بعدها بإعلانات تخص هذه السلعة أصبحت تغزوه على سطح الـTime line لحساباته على السوشيال ميديا أو على صفحات Google التي يتصفحها.

القلق العام من القوة التي باتت تمتلكها مثل هذه الشركات ما يبرره بكل تأكيد. فهذا النموذج الاستثماري الذي تتبعه هذه الشركات يعد انتهاكاً صارخاً لخصوصية المستخدمين. فمن ناحية يعتبر تسليع للمستخدم، ومن ناحية أخرى يعرض سلامة المستخدم للخطر خصوصاً في ظل الثغرات التي تظهر دائماً في هذه البرمجيات وتؤدي إلى تسريب البيانات الشخصية للمستخدمين والتي من شأنها أن تقع في أيدي بعض الجهات الضارة؛ وهي جهات قد تستخدمها في عمليات التهديد والابتزاز. ولنا في تسريبات فضيحة كامبريج أناليتيكا التي وقعت إبان حملة الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2016 أكبر مثال على ذلك.

يعزز هذا القلق العام لدى المستخدمين تواتر الأخبار والتسريبات التي تدل على أن هذه الشركات ورغم كل الإجراءات التي اتخذت على الصعيد الرسمي ونشاط المجمع المدني للحد من تغولها على بياناتهم الشخصية لا تزال تتوسع في نموذجها الرقابي وتخترع له المزيد من البرمجيات والأساليب والآليات.

على سبيل المقال، كشف موقع Markup أن شركة ميتافيرس (فيسبوك سابقاً) تستطيع الوصول إلى بعض البيانات الخاصة جداً والتي لا تخطر على بال حتى أبرز المتشائمين منا أنه يمكن الوصول إليها وتعقبها واستغلالها تجارياً.

تتضمن هذه البيانات تلك المخزنة في المستشفيات وقواعد البيانات الطبية الخاصة بالمرضى والتي تحظى بسرية تامة. تستطيع شركة ميتا الوصول إلى هذه البيانات الخاصة عبر برمجيات Meta’s Pixels وهي عبارة عن شيفرات يمكن تضمينها داخل مواقع الويب من أجل تتبع متصفحيها وبالتالي إرسال بياناتهم إلى خوادم ميتا.

هذا النموذج من التعقب يكشف لنا كيف أن المواقع الإلكترونية المملوكة للحكومات ومراكز الاستشارات الطبية والمستشفيات قد ترسل البيانات إلى ميتا عبرPixels والتي تعتبر في جوهرها بيانات حساسة للمستخدمين وقد يكون معظمها قد قُدّم إلى هذه الجهات من غير قصد. بطبيعة الحالة سوف يتم استغلال هذه البيانات للإعلانات التجارية المتعلقة بشركات الأدوية وشركات التأمين.

هذه المراقبة الرأسمالية -إذا أردتُ استخدام المصطلح الذي نحتته شوشانا زوبوف في كتابها The Age of Surveillance - Capitalism وهذا التعقب التجاري على حد سواء لا يشكلان الحلقة الوحيدة في مسلسل التعقب والمراقبة في زمن هيمنة الشبكات الرقمية. فمع هذه المراقبة الشاملة تحدث المراقبة الأمنية التي تختص بها الأجهزة المعنية في الدول، وذلك تحت ذريعة حماية الأمن القومي أو السلم الأهلي ضد التهديدات الإرهابية المحتملة. وهي مراقبة خارج نطاق مناقشتي هنا. برأيي يوجد أيضاً نوع من المراقبة بدأ يأخذ شكلا خطراً ويلقي بظلاله السلبية على المجتمع والسلم الفردي وهي الرقابة الاجتماعية.

نحن نعيش في زمن العدسات، فالكاميرات في كل مكان خصوصاً تلك المثبتة على الأجهزة المحمولة. لا تكاد تخلو يد في الفضاء العام من حمل جهاز محمول مزود بأدق الكاميرات من حيث المواصفات. لنا أن نتخيل أنه في عام 2021، بلغ عدد الأجهزة المحمولة العاملة في جميع أنحاء العالم ما يقرب من 15 ملياراً، مقارنة بما يزيد قليلاً على 14 ملياراً في العام السابق وهذا ضعف عدد سكان الأرض قاطبة. ومن المتوقع أن يصل الرقم إلى ما يقرب من 18.22مليار جهاز في العام 2025.

هذا يعني أن لكل إنسان، افتراضياً، جهازين وليس جهازاً واحداً. ومع شيوع موضة التقاط الصور أكانت سلفي أم غيرها فإن الواحد منا معرض بشكل عام لأن يكون مادة في إحدى تلك اللقطات أو ربما يكون مستهدفاً منها بشكل مباشر وذلك في محاولة صريحة لانتهاك الخصوصية من غير إذن مسبق، وفي كثير من الأحيان يحدث ذلك من باب الترفيه و"تغير الجو".

على مدار سنوا، كان الحديث يدور حول أهمية المراقبة الاجتماعية في محاسبة السلطات والشركات على حد سواء ووضعهم أمام مسؤولياتهم. وهو مفهوم رائج في خطابات المقاومة الاجتماعية حيث توجد المراقبة من أعلى (من طرف السلطات) والمراقبة المضادة من أسفل (من طرف الشعب). ولكن يبدو أن هذه المراقبة الاجتماعية تأخذ بعدها الأفقي لا العمودي فحسب، وتؤدي دور المراقبة المتباينة بين المستخدمين بصورة واعية أو غير واعية، وهو أمر يزيد الضغط على الخصوصية الفردية التي تعاني أصلاً تهشماً واضحاً في العقود الأخيرة.

إن تهشيم الخصوصية في الفضاء العام عبر المراقبة الاجتماعية (مضافاً إليها المراقبة الأمنية من خلال الكاميرات العامة، والمراقبة الرأسمالية من خلال تطبيقات التعقب) يؤدي إلى خلق نوع من الرقابة الذاتية self-censorship وهي من أشد القيود على الحريات الشخصية والسبب وراء إنتاج كيانات إنسانية خاضعة على حد وقول ميشيل فوكو.

إن أصعب ما تقتضيه عملية الرقابة الذاتية وإنتاج كيانات إنسانية خاضعة هو الوقوع فريسة لعمليات الابتزاز والتشهير، وذلك من خلال التقاط الصور لبعض اللحظات الحميمية التي قد يعبر عنها البعض في الأماكن العامة على اختلاف مستوياتها من مجتمع إلى آخر وهو ما يحرمهم من التصرف في الأماكن العامة من غير الشعور بالقلق.

لقد أصبح الفضاء العام ضمن هذا السياق مستعمراً من قبل الكاميرات وهو فضاء بات يدعو للتخفي وتنامي الشعور برهاب الأماكن المفتوحة أو العامة، الأمر الذي يؤدي إلى ممارسة عمليات قمع ذاتي تحرم الإنسان الشعور بالأمن والاستمتاع بأوقات الفراغ في الأماكن العامة المخصصة في كثير من الأحيان لممارسة الترفيه.

لقد جسد هذه الفكرة (مع العديد من التحفظات) مسلسل عرض على شبكة نتفلكس تحت عنوان Intimacy. ورغم أن القصص التي يعالجها المسلسل لا تعتبر عالمية بالضرورة فإنه يعبر عن جوهر المشكلة ألا وهو الرقابة الاجتماعية في دورها السلبي عندما تتحول إلى أداة لقمع حريات الفرد وانتهاك خصوصية واستخدامها في عمليات ابتزاز وتحرش قد تؤدي بهذا الشخص أو ذاك إلى الانعزال أو حتى الانتحار.

TRT عربي