تابعنا
تعتقد شريحة من المجتمع السعودي أن التحديث الشكلاني في بلادهم، الذي تؤسسه القيادة السياسية الجديدة ممثلة بمحمد بن سلمان، هو تحديث يخدم تطور البنية المجتمعية، دون أن يبذلوا جهداً فكرياً، لمعرفة الفرق بين هذا التحديث الشكلاني والتحديث البنيوي المطلوب.

تعتقد شريحة من المجتمع السعودي، أن "التحديث الشكلاني" في بلادهم، الذي تؤسسة القيادة السياسية الجديدة، التي يمثلها ولي العهد محمد بن سلمان، هو تحديث يخدم تطور البنية المجتمعية في بلادهم، دون أن يبذلوا جهداً فكرياً، لمعرفة الفرق بين هذا التحديث الشكلاني والتحديث البنيوي المطلوب.

إن التحديث ليس مجرد تغييرات شكلانية، تتيح مساحة من الحركة، وإيهام الحرية، بل هو فعل يتناول البنية الاجتماعية القائمة بأنساقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ويحدد مشكلاتها، ثم يضع برنامج عمل لتحديثها. فهل ذلك هو ما يحدث حالياً في الدولة والمجتمع السعوديين؟

إن العودة إلى تأسيس هذه الدولة، على يد الملك عبد العزيز آل سعود، في 23 سبتمبر/أيلول عام 1932م، يجعلنا نعرف أن حكمها تحدّد بموجب "صدور أمر ملكي بتوحيد أراضيها، تحت مسمى (المملكة العربية السعودية)، وأن تكون وراثة الحكم بأبناء الملك وأبنائهم من بعدهم. واعتمدت لها كأساس دستوري للحكم "القرآن الكريم والسُّنة النبوية"، دون أن تهتم أن هذا النموذج من الحكم يتنافى مع تعاليم الإسلام الأساسية، والتي تنص على تولية الأصلح من خلال مبدأ الشورى.

إن عبارة "العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية"، التي وردت في عهد الملك فهد بن عبد العزيز، الذي أصدر دستوراً مكتوباً، هي عبارة غامضة ومبهمة، لا تدل على حقيقة مباشرة. فلو أردنا تلمس حدود هذا العدل في مسألة توزيع الثروة الوطنية على أبناء الدولة، لوجدنا أن لا عدل في هذا الجانب، إذ إن أكثر من 25 ألف أمير سعودي يقتطعون جزءاً كبيراً من ثروات البلاد النفطية، ويبلغ الراتب الشهري لكل من يحمل لقب أمير مئة ألف ريال سعودي، إضافة إلى منحة سنوية تقدر بـ 400 ألف ريال.

إذن نستطيع القول، إن مرتكز بنية الدولة السعودية الدستوري، لا يمثل تعاقداً اجتماعياً بين طرفين، هما الدولة والمجتمع، بل هو عقد من طرف واحد "العائلة السعودية"، يُملي على الطرف الآخر "المجتمع" طاعة ملوك البلاد المختبئين خلف "كتاب الله وسنة رسوله"، والتي لا تمنحهم توارث السلطة، أو توزيع الثروة، بالصورة المعمول بها.

ولكن، ورغم طبيعة بنية نظام الحكم السعودي، فإن هذا النظام السياسي لا يمتلك استراتيجية تحديث حقيقية منذ نشوئه الأول؛ فالتحديث ليس ظاهرة اجتماعية شكلانية تسمح بارتياد دور السينما أو المراقص أو المسارح أو حفلات الغناء، أو السماح للمرأة بقيادة السيارة، بل هو تحديث عميق يغير طبيعة البنية المجتمعية في البلاد على مستوى تكامل العمل بين مستويات التطور العام، بما يخدم استراتيجية تنموية حقيقية، تنهض بمستوى حياة ووعي أفراد المجتمع وقدراتهم العلمية والثقافية والتكنولوجية، ذات الطبيعة المرتكزة على المبادرة.

إن نفي عملية "تحديث حقيقي" يدعي القادة السعوديون القيام بها، يكمن في بداية الأمر في طبيعة بنية الاقتصاد السعودي؛ فاقتصاد يبنيه التحديث لا يمكن أن يبقى اقتصاداً ذا طبيعة "ريعية"، إذ يعتمد الاقتصاد السعودي بنسبة 90% من عائداته على بيع النفط في السوق العالمية، وهذا الأمر يجعل الخطط الاقتصادية للدولة في حالة مد وجزر، وفق أسعار هذا المنتج دولياً.

ورغم أن السعودية تمتلك 18% من إجمالي احتياطات النفط المؤكدة، وهي في الوقت ذاته أكبر مُصدّر للنفط، وتمتلك خامس أكبر احتياطات مثبتة من الغاز الطبيعي، إلا أنها لم تضع خطط تنمية اقتصادية واجتماعية استراتيجية، وهذا ما جعل عائدات النفط الوطنية تذهب في تنمية شكلانية، لا تخدم استراتيجية تنموية حقيقية، مثل الأبنية والقصور والملاعب وغيرها، في وقت كان من الضروري بناء قاعدة صناعية متقدمة، وهي من يقود عربة التنمية الاقتصادية، فحجم الأموال الناتجة من بيع النفط في السوق الدولية، ومن عائدات أخرى بلغ وفق "تقديرات البنك الدولي للناتج المحلي الإجمالي في السعودية لعام 2012 وبالأسعار الجارية 711 مليار دولار.

إذن، إن حجم هذه الأموال الهائلة، لا يذهب إلى ترسيخ تنمية وطنية أو إقليمية عربية، فمثل هذه التنمية لا تحدث بغير تطوير بنى الصناعة والزراعة والخدمات والتعليم العلمي في البلاد، فتطوير هذه البنى وفق رؤية استراتيجية يحتاج إلى غير هذه البنية السياسية القسرية. فنظام الحكم هو نظام تدخلي، يعمل وفق نسق لا يخضع لسلسلة قوانين حقيقية فاعلة، تشمل عمل القيادة السياسية، بل إن هذه القيادة ترتجل قواعد عملها وقوانينها وفق تصوراتها، وما تعتقده صائباً.

إن تحديث الدولة والمجتمع السعوديين، يحتاج بالضرورة إلى تحديث البنية السياسية الحالية، ونقصد بالتحديث، أن تذهب البلاد إلى نظام حكم ملكي دستوري، لا يحق للملك فيه أن يشكل الحكومة أو البرلمان، بل أن يتم اختيار الحكومة بعيداً عن الملك، أي أن يتم اختيارها من خلال برلمان وطني منتخب بشكل حر، وهذا البرلمان هو من يختار الحكومة، ومن يحاسبها ويعزلها وتكون مسؤولة أمامه.

التحديث السياسي في السعودية هو جوهر التحديث، وهو يعني بالضرورة إعادة إنتاج نظام سياسي جديد، بغير الصيغة السياسية الحالية، وهو أمر يتطلب صياغة دستور جديد، لا يكتبه الملك، أو تفرضه العائلة الملكية. بل أن يكون دستوراً وطنياً تشارك في صياغته مكونات الشعب بكل فئاتها الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفكرية، وأن يمنح هذا الدستور حق تشكيل تيارات وأحزاب وطنية ضمن مفهوم وحدة البلاد السياسية، وخارج أطر مكوناتها ما قبل الوطنية (دينية – طائفية – قبلية).

إن تحديثاً حقيقياً في السعودية يحتاج أيضاً إلى ترسيخ مفهوم العدالة الاجتماعية، التي تقتضي عدالة توزيع الثروة، وتحقيق المساواة في فرص الحقوق والواجبات وفرص العمل، وفق عقد اجتماعي ينظم هذه الحقوق، ويجعل منها قاعدة للحياة في المجتمع والدولة.

إن الاختلال الحالي في توزيع الثروة يسبب تفاوتات طبقية، تخلق صراعات قد لا تظهر الآن، ولكن الوعي بها لاحقاً سيفجر صراعاً اجتماعياً قد يهدد وحدة البلاد واستقلالها، وهذا الأمر لا يمكن معالجته خارج مفهوم التحديث الحقيقي.

فإذا نظرنا حالياً إلى حالة التمييز الموجودة بين "النجديين" أي المنتمين إلى قبائل منطقة نجد "المحسوبين على العائلة والنظام السعوديين" وبين باقي قبائل المملكة، سنجد أن الولاء الحقيقي لهذه القبائل ينقسم بين موالين للملك، وبين آخرين غير موالين. وهذه الحالة تنسف عملياً الاندماج الوطني، الذي يشكل قاعدة التحديث الحقيقي، فلا يمكن لقاعدة شعبية يحميها الولاء لشخص الملك أو للعائلة السعودية أن تكون وطنية.

إن ما يدمج الناس هو انتماؤهم الوطني، وأن يكون هذا الانتماء محدداً للهوية الوطنية، فكيف تعلن ولاءك للقبيلة أو ولاءك للعائلة الملكية، وهما جزآن صغيران من محتوى أكبر هو الوطن.

إن النظام السياسي السعودي لم يستطع تحقيق مفهوم "المواطنة الحقيقية"، ولا تزال البنى ما قبل الوطنية "القبلية والدينية والطائفية" هي ركائز هذا النظام وأدواته العميقة، وبالتالي لن يستطيع هذا النظام في حالة المنعطفات السياسية الكبرى أن يحافظ على التشكيلة السياسية- الاجتماعية ذاتها، التي ارتكز قيامه عليها، بل سيكتشف أنه ممثل سياسي لفئة من مكونات المجتمع السعودي، وليس تعبيراً عن وحدة هذه المكونات على قاعدة الوطنية.

هذا التمثيل يكشف عن خلل في أداء وظيفة الدولة لدورها الإقليمي ودورها الدولي، هذان الدوران تحكمهما ذهنية مصالح بقاء العائلة السعودية مهيمنة على الحكم من خلال استخدام سلطة عائدات ثروات البلاد، ولذلك نكتشف أن تدخل السعودية في الإقليم لا تحكمه رؤية استراتيجية تخلق مجالاً حيوياً فعالاً تتفاعل فيه شعوب المنطقة، بما يبعد الحروب، ويؤسس لمجتمعات مستقرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل تحكمه ذهنية الخوف من أن تفقد العائلة الحاكمة القدرة على استمرار سيطرتها على سلطة البلاد ومقدراتها، وهو خلل عميق في الذهنية، يستفيد منه الطامعون الإقليميون أو الدوليون.

فهل سيتغير اتجاه التحديث الشكلاني الحالي في السعودية، ليحل بدلاً منه تحديث بنيوي عميق، ينتج عنه مجتمع يقيم بناءه الحضاري على قاعدة وطنية حقيقية؟ أم أن سياسات الحكم السعودي ستراكم من أزمات البلاد البنيوية، مما يجعل من البنية المجتمعية السعودية بنية مأزومة غير قادرة على تجاوز أزمة وجودها المرتبطة بطبيعة نظام سياسي، يعيق التطور التنموي الشامل للبلاد؟

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كُتابها ولا تعبر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي