ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (Reuters)
تابعنا

الملاحظ أن المملكة العربية السعودية تعيد ترتيب سياساتها الخارجية تجاه العالم العربي بعد سلسلة من الكبوات التي مُنيت بها منذ إطلاقها عاصفة الحزم حتى ضربة أرامكو، مروراً بالحصار المضروب على قطر، حتى أزمة مقتل الصحافي خاشقجي التي أساءت إلى صورتها بشكل كبير.

التحول الذي تعرفه الدبلوماسية السعودية يقطع مع الباردايم الذي أرساه الملك فهد واستمر بعده، واستعاد البعد العربي في الوقت الذي كانت السعودية في عهد الملك فيصل تركز على البعد الإسلامي وتنظر إلى البعد العربي القومي بتوجس شديد.

يمكن القول إن السعودية مرت بمرحلة انتقالية منذ "الربيع العربي" حتى ضربة أرامكو، كي تضع معالم باردايم جديد. لم تعد السعودية تبني علاقاتها بناء على نوعية النظام أو التوجه الأيديولوجي، بل على تطابق المصالح والتوجهات السياسية. في المنظور ذاته تطرح السعودية محاور جديدة، منها بُعد البحر الأحمر أو القرن الإفريقي، الذي كان غائباً في توجهاتها في السابق، يضع مصر في لب أولوياتها من أجل درء الخطر الإيراني جنوباً، والتحكم في شريان باب المندب.

تقيم السعودية علاقات جديدة مع دول الخليج خارج إطار مجلس التعاون الخليجي الذي اعتراه التصدع منذ مقاطعة قطر. وبالوقت ذاته ترسي علاقات جديدة مع البلدان العربية التي عرفت تغييراً مؤخراً في هرم السلطة جرّاء حراك شعبي، كما مع السودان أو الجزائر، أو مسلسل ديمقراطي كما موريتانيا، (عدا تونس)، وبذات الوقت يعرف التوجه الجديد للسياسة الخارجية تعاطياً مغايراً من المملكتين خارج محيط الخليج، الأردن والمغرب، يقطع مع التوجه السابق.

لقد كانت السعودية تعتبر المملكتين رديفاً لما ينظر إليه بحلف الملكيات 6 زائد 2 منذ فورة الربيع العربي، وسبق أن احتضنت سنة 2016 لقاء ضم دول الخليج زائد المغرب والأردن، أثناء زيارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما إلى الرياض. العلاقات السعودية مع الأردن كما مع المغرب لم تعد بالألق الذي كانت تعرفه في السابق.

وبالوقت نفسه عرفت سياسية السعودية تغييراً مع الأطراف غير العربية في المنطقة، إيران وتركيا وإسرائيل، وهو الأمر الذي يؤثر بالتبعية على سياستها العربية.

لا تتغير توجهات السعودية تجاه إيران، التي تمثل العدو والخطر أو "رأس الأفعى"، حسب ما بثته تسريبات ويكليكس، بالنظر إلى إسلامها الثوري الذي ينازع السعودية سؤددها، ويسائل إدارتها للأماكن المقدسة، وهي قضية تعتبرها السعودية حساسة، ولأن إيران تستثير أقليتها الشيعية، ولتوجهها التوسعي وبرنامجها النووي. وهي المحاور التي ترسم سياسة السعودية تجاه إيران، إلا أن أسلوب التعامل تغيَّر من المواجهة العسكرية بالوكالة إلى الجنوح للدبلوماسية، لكن الدبلوماسية هنا هي استمرارية للحرب بوسائل أخرى، في ما تعتبره السعودية عمقها الاستراتيجي اليمن. وتظل علاقات السعودية بكثير من الدول العربية رهينة بمواقفها تجاه إيران، كما مع لبنان أو في حدود مع العراق.

العلاقات السعودية التركية لم تعد من التصافي الذي كانت عليه، كما بدا في مناورات حفر الباطن سنة 2015 فيما اعتُبر ناتو سُني، يضم إلى السعودية ومصر كلاً من تركيا وباكستان. اهتزت العلاقات السعودية التركية عقب الحصار المضروب على قطر ودعم تركيا للدوحة والاستعداد للدفاع عنها أمام أي اعتداء ممكن.

وازدادت العلاقات سوءاً عقب مقل الصحافي خاشقجي. تُحمّل دوائر القرار في السعودية تركيا مسؤولية فضح الجريمة، ما عرّضها إلى أكبر اهتزاز عرفته منذ 11 سبتمبر/أيلول. وتنظر السعودية إلى العلاقات التركية القطرية بتوجس شديد، ولا تتورع عن انتقاد ما تسميه المحور التركي القطري الإخواني الذي يغذي من منظورها التطرف في العالم العربي.

ويسند السعودية في هذا التوجه الإمارات العربية. وتعتبر حلبات الصراع الملف السوري، ولو أن التأثير السعودي تضاءل، إضافة إلى الملف اليمني وليبيا. وبالنظر إلى هذه الخلفية السياسية تعمد السعودية إلى "تطهير" برامجها التربوية من مخلفات التاريخ العثماني في كتبها المدرسية، كما تواجه الزحف الثقافي التركي في المسلسلات من خلال أفلام تصور العثمانيين بصور سلبية.

ويتعاطى الإعلام التابع للسعودية بطريقة سلبية مع القضايا التي تنخرط فيها الدبلوماسية التركية. وقد انتقدت السعودية بشدة اللقاء الذي انتظم بكوالالمبور، الذي نادت فيه أقطاب إسلامية منها إيران وتركيا وماليزيا، بضرورة التفكير في إطار يحفظ مصالح الدولة الإسلامية وكرامة المسلمين مع اشتداد أعمال العنف ضدهم، بالنظر إلى رخاوة منظمة التضامن الإسلامي التي تعتبر السعودية عرابها. وقد مارست السعودية ضغوطاً على باكستان كي لا تحضر المؤتمر، وانتقد إعلامها بشدة تركيا بصورة خاصة.

أما الحلقة الأخرى التي يطالها التغيير فهي إسرائيل. لقد أضحت بالقوة حليفاً استراتيجياً ضد إيران، وعنصر توازن ضد تركيا، مما يجعل إسرائيل حليفاً موضوعياً، وتلتقي معها في شجب الديناميات الشعبية في العالم العربي.

تحمل الأنباء معالم تطبيع مستتر، فضلاً عن تغيير تعاطي السعودية مع القضية الفلسطينية، وتعاملها الإيجابي مع صفقة القرن. صحيح أنه لم يصدر أي تعليق لتبَنِّيها، ولكن وزير الخارجية السابق عادل جبير أشاد بها من موقعه الجديد. ويَعتبر تصريح إعلامي سعودي عقب إماطة اللثام عن صفقة القرن رأى التطبيع مع إسرائيل أمراً سيادياً يرعى المصالح الاستراتيجية للسعودية، مؤشراً على هذا التوجه.

كانت الأولوية للسياسة السعودية الخارجية هي مع الحليف الأمريكي. ولكن ضربة أرامكو في البقيق وخليص وعدم رد الولايات المتحدة جعلا السعودية تعقِّب بتقارب مع روسيا وزيارة بوتين لها وإبرام صفقة أسلحة.

ضربة أرامكو لحظة مفصلية، هي من الأسباب التي دعت السعودية لتغيير أولوياتها وأسلوبها. ويعتبر الانتشار الجديد للدبلوماسية السعودية في العالم العربي معبراً لهذا التوجه الجديد. تُبقي السعودية على علاقات متميزة مع مصر، وترنو إلى إعادة ترتيب علاقاتها بالبلدان المغاربية. لم تعد تنظر إلى المغرب بصفته الحليف الأول في المنطقة. عدم استقبال ولي العهد السعودي في طريقه إلى قمة المجموعة 20 بالأرجنتين من قِبل الملك محمد السادس، خلّف استياء. واستفحل الجفاء من خلال قمة أردنية مغربية انتقدت حينها ضمنياً صفقة القرن.

تدشن السعودية علاقات متوازنة مع الجزائر، كرد فعل، مثلما برز خلال زيارة الرئيس الجزائري للسعودية في شهر فبراير/شباط، وما صدر من معلقين قريبين من مراكز القرار، يسفرون عن توجه جديد للسعودية في البلدان المغربية يقيم علاقات متوازنة مع العواصم المغاربية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي
الأكثر تداولاً