تابعنا
تَقلَّصَت دورة بزوغ الأحزاب السياسية في أوروبا وهبوطها، فشعبية الأحزاب التقليدية الكبرى ماضية إلى التآكُل، بينما تصعد أحزاب وحركات وقوائم حديثة التشكّل حتى قبل أن تنضج هياكلها.

تتزايد فرص الأحزاب الجديدة والحركات الجماهيرية والتشكيلات الشعبوية وخيارات الحشد الشبكي، متزامنة مع حالة إحلال نسبية تشهدها الطبقة السياسية عبر القارّة، بينما تضغط التفاعلات على الأحزاب التقليدية المتجذِّرة كي تعيد إنتاج حضورها وخطابها لضمان البقاء في المشهد.

تعبِّر إيطاليا بصفة أمينة عن هذه التحوّلات الجارفة، فأحزابها التقليدية تدهورت لصالح قوى كانت محسوبة على الهامش السياسي وبعضها عناوين محدودة التشكّل.

إنّ حزب "الرابطة" الذي نادى طويلاً بانفصال الشمال الإيطالي عن شبه الجزيرة صار الآن القوة السياسية الأولى في البلاد بعد أن تنازل عن اسمه السابق "رابطة الشمال"، وصار يمسك بالحكومة بمعيَّة "حركة خمس نجوم" الشعبوية التي لم ترغب في أن تكون حزباً أساساً.

وتكشف الحالة البريطانية عن المدى الذي بلغته هذه التحوّلات، فقد تقدّم اليمين الشعبوي بمعدَّلات قياسية في السباق إلى تمثيل بريطانيا في البرلمان الأوروبي من خلال قائمة حديثة التشكّل أزاحت تشكيلات حزبية ناضجة من طريقها. 

تقتضي الشعبوية إقداماً على مواقف استعراضية تتملّق النزعة الغوغائية من قبيل السلوك الذي أظهره نواب حزب "البريكسيت" البريطاني في الجلسة الافتتاحية للبرلمان الأوروبي.

حسام شاكر

تقتضي الشعبوية إقداماً على مواقف استعراضية تتملّق النزعة الغوغائية، من قبيل السلوك الذي أظهره نواب حزب "البريكسيت" البريطاني في الجلسة الافتتاحية للبرلمان الأوروبي في ستراسبورغ في الثاني من يوليو/تموز عندما أداروا ظهورهم لدى وقوف النواب لعزف النشيد الأوروبي.

تصنع مواقف كهذه الحدث بإثارة الجدل وكسب الأضواء ومنح فرصة التقاط الصور وتبادلها في منصّات التواصل مع كسب إعجاب جمهور متذمِّر من بيروقراطية الوحدة الأوروبية.

يبدو إظهار التذمُّر ومناهضة الأنظمة التقليدية سمة مشتركة في العناوين شبه الحزبية التي تشكّلت سريعاً وحققت صعوداً انتخابياً مفاجئاً في أوروبا، وهي تتركز في أقصى اليمين مع حركات اجتماعية ناقدة ذات مشرب يساري.

تمنح روح العداء للأنظمة فرصة مثالية لصعود وجوه وعناوين غير تقليدية في الحياة السياسية عبر أوروبا. يتطلّع ناخبو "الزمن الشبكي" إلى معبِّرين غير نمطيين عنهم، ومن الأفضل أن لا يكونوا سياسيين على النحو الذي عرفوه من قبل. يشير هذا التحوّل إلى مأزق تواجهه الديمقراطية التمثيلية في زمن التعبير الجماهيري المباشر.

تُواجِه الديمقراطيات العريقة تحدِّي إقناع مواطنيها بأنّ انتخاب طبقة سياسية كل أربع سنوات للنيابة عنهم في أروقة صنع القرار ما زال خياراً مُجدياً وموثوقاً، رغم أنّ المواطن نفسه صار يملك أدوات التعبير الجماهيري المباشر عن ذاته بلا وسطاء وإسماع السياسيين وإزعاجهم ومطاردتهم في مواقع التواصل على مدار الساعة بالتعليقات اللاذعة المبثوثة عبر نصوص وصور ومقاطع مرئية وبالبثّ المرئي المباشر أيضاً.

يبدو إظهار التذمُّر ومناهضة الأنظمة التقليدية سمة مشتركة في العناوين شبه الحزبية التي تشكّلت سريعاً وحققت صعوداً انتخابياً مفاجئاً في أوروبا.

حسام شاكر

أدرك سياسيون حاذقون أنّ حضورهم الجماهيري يقتضي منهم المرابطة في ثغور الشبكة ومواصلة التصرُّف بأسلوب المواطنين المتذمِّرين، وإن تغيّبوا عن جلسات برلمان انتُخبوا لعضويته نيابة عن الشعب، كما يفعل بعض نواب البرلمان الأوروبي.

تبعث هذه التطوّرات شكوكاً في جدوى المراهنة الانتخابية على استثمار طويل الأمد في الهياكل الحزبية التقليدية المعبِّرة عن أوساط من الشعب، فثمة طرق التفافية صارت متاحة عبر الشبكات لكسب الجماهير والتفاعل معها واستمالة الناخبين بأساليب التسويق السياسي المركّبة من خلالها. 

يبقى فوز الفكاهي زيلينسكي برئاسة أوكرانيا تعبيراً جليّاً عن سيولة سياسية متزايدة. اختار ثلاثة أرباع الناخبين شخصية ظريفة بعد أن فقدوا الثقة بالسياسيين، دون أن يكترثوا بحقيقة أنّ الرئيس الجديد لا يحمل برنامجاً واضحاً ولا يملك إجابات عن أسئلة شائكة في بلد كبير تتناوشه تجاذبات داخلية وخارجية. بدا صاحب الفكاهة في الأعيُن الأوكرانية "واحداً منّا"، فتجاوز طقوس "أولئك السياسيين" الذين تعاقبوا على الحكم عبر ثلاثة عقود منذ الفكاك من الاتحاد السوفييتي.

للسيولة السياسية شواهدها المتعددة، وقد تشمل أيضاً حالة الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي صعد سريعاً إلى قيادة فرنسا بتأييد ضمني من الطبقة السياسية التقليدية لمواجهة المتطرفة مارين لوبن. تقلّد ماكرون الرئاسة بعد عمله في بيروقراطية الدولة الفرنسية في أعقاب تخرجه في أكاديمية النخبة المسمّاة "المدرسة العليا للإدارة".

ورغم إرثه البيروقراطي وانتمائه النخبوي، فإنّ نموذج ماكرون تجاوَز العمل الحزبي التقليدي، حتى إنّ حزبه "إلى الأمام" الذي ظهر قبل سنة من فوزه بالرئاسة ما زال غضّاً ومفتقراً إلى النضوج الهيكلي. ثمّ اختار ماكرون احتواء تحدِّي "السترات الصفر" وموجة الغضب الشعبي من سياساته الاقتصادية والاجتماعية بإطلاق "حوار وطني" غير مسبوق تجاوز فيه تقاليد الهياكل الديمقراطية التمثيلية ومشاورات الأحزاب، بما أثار انتقادات برلمانية وحزبية.

لا يقتصر التحوُّل الذي تشهده أوروبا على صعود عناوين غير نمطية في الحياة السياسية، فهو يمتدّ إلى محاولة إعادة إنتاج أحزاب تقليدية في أثواب جديدة أو بمحاولة تجاوز النخب الحزبية لصالح إدماج جماهير شابّة.

تُدرك الأحزاب التقليدية ضرورة التجديد إنْ أرادت ضمان مواقع لها في اليوم التالي، فالجولات الانتخابية الأخيرة أظهرت أنها تواجه اختبارات شاقّة، وأنّ الطبقة السياسية تشهد عبر أوروبا حالة استبدال نسبية في العناوين الحزبية والوجوه والشعارات أيضاً.

يتحاشى الصاعدون الجدد التصرُّف على طريقة السياسيين النمطية وهو ما يفسِّر جزئيّاً تمسُّك ساسة إيطاليا الجدد بأساليب فجّة في التعبير السياسي من مواقعهم الحكومية.

حسام شاكر

تشير تجربة حزب العمال البريطاني بقيادة جيرمي كوربن إلى تحوّل نسبي بلجوء السياسي اليساري العجوز إلى استنفار قواعد شابّة وإدماجها في مداولات الحزب على حساب "الحرس القديم".

ومن التحوّلات الماثلة للعيان في هذا الشأن ما أقدم عليه الشاب سباستيان كورتس مع حزب الشعب النمساوي بإعادة إنتاج الحزب المحافظ بعد أن شاخت قيادته وتراجعت شعبيته، فأعاد الحزب بلون جديد وفحوى مغايرة إلى الصدارة الجماهيرية وقيادة الحكومة.

يُسدي تضعضع البنى الحزبية التقليدية خدمة جليلة إلى النزعات الشعبوية التي تجتاح بيئات أوروبية متعددة. فالكيانات الحزبية التقليدية يُفترَض بها عقلنة النقاش السياسي ومنح المداولات فرصة للاختمار وإبرام التسويات أيضاً، ضمن عملية المفاوضة المجتمعية وإدارة التناقضات بشأن الخيارات المعروضة للتداول. تُغري السيولة بخوض مغامرات غير محسوبة العواقب بعيداً عن هذه التقاليد، مع الاستقواء بمزاج جماهيري داعم لخيارات شعبوية.

ما يعزِّز الحالة أنّ بريق الحياة النيابية انقشع من عيون الناخبين الذين يستشعرون قدرتهم على تمثيل مصالحهم بصفة مباشرة بلا وسطاء من الحياة الحزبية أو النيابية.

تواجه الديمقراطية التمثيلية أزمتها مع جمهور يمتلك أدوات التعبير الجماهيري عن آرائه ومواقفه ويباشر الضغط والتأثير على صانعي القرار من منصّات شبكية تتأهّل لصناعة الحدث في الميدان أيضاً.

يعبِّر تفضيل "الديمقراطية المباشرة" عن هذه الأزمة، باللجوء إلى الاستفتاءات الشعبية بدلاً من المداولات الحزبية والبرلمانية وهو ما كبّد بريطانيا أعباء جسيمة مع عواقب التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي.

تصعد السيولة السياسية سريعاً ببعض الوجوه والعناوين تحت وطأة الأزمات القائمة أو الهواجس المفتعلة، لكنها لا تمنح -بطبيعتها- استقراراً للصاعدين أو طمأنة لهم بشأن ثباتهم في مواقعهم في اليوم التالي.

يتحاشى الصاعدون الجدد التصرُّف على طريقة السياسيين النمطية، وهو ما يفسِّر جزئيّاً تمسُّك ساسة إيطاليا الجدد بأساليب فجّة في التعبير السياسي من مواقعهم الحكومية، كما يفعل زعيم حزب "الرابطة" ونائب رئيس الوزراء ماتيو سالفيني مثلاً.

يتعارض منطق السيولة السياسية بطبيعته مع بيروقراطية الأجهزة في الأنظمة الديمقراطية، وهو ما يضغط بصفة خاصة على الاتحاد الأوروبي الذي يقوم على هيكلية بيروقراطية معقّدة نِيطَت بها إدارة معادلة "الوحدة والتنوّع" استناداً إلى إرث من الأنظمة المتراكمة والاتفاقيات المبرمة التي لا تبدو مفهومة لمواطنيها كما ينبغي، رغم حملات التعريف المكثفة التي بذلها مشروع الوحدة مع مواطنيه.

تختزل حالة السيولة السياسية دورة حياة الأحزاب والحكومات، ومعها يتقلّص مجال الرؤية أيضاً بما يزيد صعوبة تشوُّف الآتي واستشراف المستقبل أيضاً تحت وطأة المفاجآت المتلاحقة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً