تابعنا
من "الشعب يريد" إلى "الشعب لا يريد"، ومن "ارحل" إلى "تتناحو قع" يخط الحراك الجزائري لنفسه مساراً إبداعياً في الهتاف يعبر عن اللحظة التاريخية التي يعشها العالم العربي في دورته الثانية من مساعيه نحو الديمقراطية والانعتاق من الحكم الدكتاتوري.

بعد أسبوع واحد فقط من بداية الحراك، خرج وزير الحكومة في الجزائر أحمد أويحيى على نوّاب البرلمان يحذّر من أن يكون مصير الجزائر شبيهاً بسوريا. بعد أويحيى، اصطفّت عصابة النظام واحداً تلو آخر يغرّدون بنفس الموّال، وبدا واضحاً أنّ "لجماعة لفوق" كانوا يمدّون النظر إلى ما حدث قبل ثمانية أعوام، بكثير من الحماس. الأنظمة حريصة على الاقتباس والاستفادة من تجارب جيرانها، فهل الشعوب كذلك؟

يخطئ من يعتقد أنّ الحراك في الجزائر هو استمرار لموجات الربيع العربي، ومخطئ كذلك من يظنّ أنّ الجزائريين لم يتقاطعوا مع الربيع العربي بأي شكل من الأشكال. صحيح أنّنا ننتمي إلى شروط تاريخية مختلفة، إلا أن ظلاله لا تزال تجاورنا، وأصداءه لا تزال تتردد فينا، ولو خَفْتًا! الأمر الذي يدفعني إلى الادّعاء أنّ الجزائريين استوعبوا، جيّداً، دروس الربيع العربي، وها هم أُولاء يُنشِئون قولاً تاريخيّاً جديداً!

يخطئ من يعتقد أنّ الحراك في الجزائر هو استمرار لموجات الربيع العربي ومخطئ كذلك من يظنّ أنّ الجزائريين لم يتقاطعوا مع الربيع العربي بأي شكل من الأشكال.

عبد الوهاب عجروم

تحاول هذه المقالة الدفاع عن الموقف الذي يرى الجزائريين واعين، ومتفقين، بأنّ لحظة الثورة متعذّرة في السياق الحالي، الأمر الذي دفعهم إلى اختيار لحظة الحراك، هذا الاختيار الذي ظهرت ملامحه على مستوى اللغة والأهداف والوسائل.

سأنطلق في بناء هذا النسق التحليلي من الشعارات التي رفعها الجزائريون منذ 22 فبراير، حتى الجمعة السابعة. والشعار هو ذلك "الهتاف الذي تنزع الجماهير إلى الوجود معه أبداً". يهمّني في الشعار ثلاثة أشياء رئيسية: أن يكون هتافاً، صراخاً، صخباً، صوتاً، وأن يكون مُضيفاً للجماهير (يجعلهم في ضيافته)، إذا اجتمعت فإنها تهتف به، حتى لكأنّهم هو. وأن يكون نزوع الجماهير إلى الوجود معه أبديّاً، لا يخبو بمرور الأيام والليالي.

هذه التحديدات تسمح بلحظ شعار الثورة، ثورة مصر، ومن خلفها الربيع العربي بكامله: "الشعب يريد إسقاط النظام". ينتمي هذا الشعار إلى لحظة الثورة، إلى لحظة الفعل، إلى لحظة القطيعة مع النظام. على المستوى اللغوي: هذه جملة خبرية مُوجَبة. على مستوى الهدف: الهدف واضح، إسقاط النظام، وطَرَفَا المعادلة واضحان كذلك، وإن كانا عامَّين بعض الشيء: الشعب من جهة، والنظام من جهة أخرى.

بالنسبة إليّ حين كنت أسمع هتاف المحتجين في التحرير، كان واضحاً أنّ هذه الجماهير تعرف ما الذي تريده، وتطالب به، تهتف له، وستصطفّ وراءه إن لزم الأمر. هذه لحظة الثورة، حين تكون الجماهير على مقربة من الفعل الثوري.

الجزائريين واعين ومتفقين بأنّ لحظة الثورة متعذّرة في السياق الحالي الأمر الذي دفعهم إلى اختيار لحظة الحراك.

عبد الوهاب عجروم

الثورة موقف إيجابي من الواقع، محاولة لتغيير وضع ما، أخذ لزمام المبادرة، تحمُّل للعبء. لذلك تستخدم الثورة لغة مُوجَبة، لغة قاطعة، لغة أهدافها واضحة ولو كانت عامَّة. لحظة الثورة لحظة الأجوبة التي نملكها كشباب، أو كنّا نظنّ أننا نملكها، أمام أنظمة مهترئة.

أمّا الحراك، فهو لحظة مختلفة تماما! الحراك محاولة لـ"بثّ الخلل في النظام"، وتحديداً نقل الأزمة إلى معسكره وتركه يتعامل معها، وحيداً، بآلياته. لحظة الحراك، كما يعبّر عنه السياق في الجزائر، هي لحظة طرح الأسئلة ورفض الأجوبة: رفض تقديم أجوبة أو حلول محتمَلة للنظام، ورفض لأجوبته كذلك.بالنسبة إلى الحراك، نحن في موقف الرفض، والنفي، وعدم الموافقة. لا تنتظرْ من الجماهير أجوبة لأنها لا ترغب في ذلك، كلّ ما تريده في هذه اللحظة تحديداً هو رفض أجوبة النظام وحلوله.

كلّ هذا بدأ على مستوى اللغة، وعوضاً عن اختيار شعار الربيع سابقاً "الشعب يريد"، فضّل الجزائريون شعاراً "نافياً"، فكان "الشعب لا يريد". اختيارُ العبارات التي تتضمن مفرداتِ النفي وعدمِ الموافقة، تاركةً المجال مفتوحاً للتأويل حول ما ستوافق عليه، كان هو الحركة الأساسية، من وجهة نظري، في تجاوز أفق الثورة المأزوم، نحو أفق حراك لا يعرف النظام كيف يتجاوب معه.

على مستوى اللغة وعوضاً عن اختيار شعار الربيع سابقاً "الشعب يريد"، فضّل الجزائريون شعاراً "نافياً" فكان "الشعب لا يريد".

عبد الوهاب عجروم

لنحاول أن نقرأ سريعاً هذه الشعارات: "الشعب لا يريد، بوتفليقة والسعيد"،"ماكاش الخامسة يا بوتفليقة، جيبو البيارري جيبو الصاعيقة"، "يا أويحيى، يا ليهودي، دزاير ماشي سوريا"، "رانا مع الجيش ماشي مع القايد"، "كل يوم مسيرة كل يوم مسيرة، ما راناش حابسين"، "وين راهي الخاوة خاوة، وين راهي الخاوة خاوة"، "ولاش ولاش، ولاش السماح ولاش". "ما كاش الرايس كاين تصويرة"، "جمهورية ماشي مملكة"، "بوتفليقة، يالمرّوكي، ما كاش عهدة خامسة"، "صوري صوري، يالقايد صالح، والشعب ماشي جايح".

المفردات بالخط العريض هي مفردات النفي في العامّية الجزائرية، وهذه الشعارات مرّة أخرى هي "الهتافات التي نزعت الجماهير الجزائرية إلى الوجود معها" منذ بدء الحراك. بالنسبة إليك أيها القارئ، ما طبيعة الشعور الذي يتملّكك وأنت تتأمل فيها؟ بالنسبة إليّ: تعبّر هذه الهتافات عمّا يرفضه الجزائريون بشكل قاطع، عن الوضع الذي خرجوا لوقفه، أما ما يرغبون فيه، أفقهم الذين يحلمون به، فإنّهم لا يهتفون به. نعم هم يتحدثون به فيما بينهم، يناقشونه حيث يكونون، ولكن حين يقابلون النظام، حين يواجهون آلات قمعه، فإنهم لا يهتفون إلا بهذه اللغة التي لا يفهمها، لغة النفي.

هكذا يحصّن الجزائريون أنفسهم، ولو على مستوى لغوي فقط، من اختطاف النظام لحراكهم، ومناورته لأجل تأخير سقوطه. غير أنّ هذا المستوى اللغوي لم يكُن الحصن الوحيد. حين تسأل الجزائريين عن الحلول التي يرغبون فيها، تكاد تُفاجَأ لكثرة الاختلاف فيما بينهم، لدرجة أنّه يستحيل، أو يكاد، أن يتفقوا على تصوُّر واحد. لا يقدّم الجزائريون أجوبة واضحة تمكّن النظام وشبكات مصالحه من استهدافها وتقويضها، كلّ ما يقولونه، على تعدُّده مجموعة مطالبات أكثر، "سنتطرق إليها بعد أن ترحل العصابة" يقولون. يرفض الجزائريون أهداف الثورة، وحتى حين يرفعونها، فإنّهم يرفعونها ضبابية حتى ليدخل فيها الصديق قبل العدوّ. (شعار: يتنحاو قع).

الجزائر تقدّم ربما لأوّل مرّة حراكاً جماهيرياً لا قيادة له على الأرض حرفياً لا وجود لأي شخص أو جماعة تدّعي قيادة الحراك.

عبد الوهاب عجروم

بالنسبة إليّ، تساهم آلية صياغة أهداف الحراك هذه في تعمية خارطة المغالبة السياسية ضدّ النظام، مما يجعله أكثر تيهاناً. لم تتعود أنظمتنا المغالبة السياسية أصلاً، ولم تتعود قَطّ مغالبة لا أفق "واضح" تتحرك فيه. هذه الرمال المتحركة التي يقف عليها الشعب تسحب أزلام النظام، واحداً واحداً، وكلّ يوم نصبح على وقع استقالات جديدة.

لحظة الحراك هذه إذاً هي لحظة رفض الفعل، رفض التوسل بالأجوبة، لا على مستوى اللغة والأهداف فحسب، بل حتى على مستوى الوسائل. ربما اشتهر الآن حقيقة أنّ الجزائر تقدّم، ربما لأوّل مرّة، حراكاً جماهيرياً لا قيادة له على الأرض، حرفياً لا وجود لأي شخص أو جماعة تدّعي قيادة الحراك. هذا الرفض، هذا الموقف النافي، أجده مرّة أخرى متناسباً مع اللحظة، اللحظة التي لا ترى أنها تقوم بثورة، ولا حتى مطالبة بالقيام بثورة. لحظة الحراك ترى أنّ أي تفاعل إيجابي، ولو كان تسمية ممثلين عن الحراك، يمكن أن يكون الحبل الذي يتمسّك به النظام ليلفّه على أعناقنا لاحقاً!

أن تختار النّفي أفقاً للحراك، يعني أن تصرّح ضمنياً بأنّك تعلمت من درس الإثبات، أنّك تقدّر ما حدث، وترغب في تجاوزه

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً