تابعنا
أضحت خطب مرجعية النجف تؤسَّس على قاعدة مجتمعية مرتبطة باحترام إرادة الشعب وإتاحة الفرصة لهم للمشاركة الفعالة في تسيير شؤونهم وانتخاب إداراتهم وقادتهم، واختيار من يتولى السهر على رعاية مصالحهم.

وفي هذا الصدد تُعتبر مهمة تشريع قانون جديد للانتخابات، يكفل للشعب حق اختيار منتخَبيه من جهة، ومحاسبتهم على أعمالهم من جهة أخرى، أمراً لا مفرّ منه. طبعاً هذا يجب أن يترافق مع توافر جملة من العوامل المساعدة منها قانون انتخاب مناسب، يتمتع فيه عضو البرلمان المنتخب بصلاحيات تشريعية ورقابية كاملة تمكّنه من أداء مهامه دون ضيق أو عقبات.

لقد بات يترسخ أنه من غير الممكن تصوُّر قيام حل للأزمة في العراق بعد مرور ما يربو على شهرين من داخل قيادات النظام السياسي الحالي، أو من داخل مراكز القوى الساندة لتلك الأحزاب في إيران.

نحن نواجه في العراق وضعاً غريباً من نوعه، لم يحدث قط في تاريخ تظاهرات العراق بعد عام 2003، وهو أن التنظيم الحزبي أو السياسي أو الفئوي لثورة تشرين قد انتهى إلى تبنِّي شعارات سياسية شعبية تمنع إمكانية استمرار سلوك النظام السياسي الحاكم بشكله الحالي لانعدام الثقة به وفقدان مشروعية تسنُّم قياداته لمناصب سيادية.

لقد عرف العراق عام 2018 تجربة صعبة تَمثَّلت في مقاطعة قرابة 80 بالمئة ممن يحقّ له الانتخاب، لهذا ينبغي للمعارضة والمتظاهرين التركيز والحرص على تفادي تكرار مثل هذه المقاطعة بعد التراضي على قانون انتخاب ينتفع منه الشعب قبل السُّلْطة وأحزابها، وذلك من خلال ضخّ مجموعة كبيرة من الإصلاحيين الذين يستندون إلى ساحات التظاهرات، مع الحرص على عدم تأثير التوجهات غير الوطنية للأعضاء المنتخبين على واجبهم في خدمة الشعب بالدرجة الأولى.

لا شك يوجد كثير من العراقيل في سبيل تحقيق قانون انتخابي فاعل منها على وجه الخصوص: أولاً سيطرة العشيرة والطائفة والقومية والفصائلية على المشهد السياسي، وثانياً مُشكِل المحاصصة الحكومية أو ما يُعرَف بـ"ثقافة الفاعل الهجين" الذي سيتم إيضاحه لاحقاً.

لقد واجهت حكومة عادل عبد المهدي التي خاضت سنة حكومية قاسية عقب تصاعد القمع تجاه التظاهرات السلمية، عوائق معقدة قد تواجه الحكومة الانتقالية ترتبط بتفكك عقد الحكومة العميقة وحصر سلاح الفصائل بيد الدولة وملاحقة المكاتب الاقتصادية غير القانونية المسيطرة على استثمارات وأموال مؤسسات الدولة التي فرضت هيمنة مجموعات طائفية وقومية وحزبية وفصائلية، ذات المصالح الفئوية الضيقة، مِمَّا يؤكّد تجدُّد التظاهرات وانهيار مسارات الحكومة الانتقالية البديلة عن حكومة عادل عبد المهدي.

أسباب تعثُّر الحوارات للوصول إلى حلول تقنع المتظاهر بالعودة إلى بيته، هي الصراعات الداخلية في البيت السياسي الشيعي. هذه الأحزاب هي التي صنعت عقد الحكومة العميقة داخل جسد مؤسسات الدولة، ومنذ 16 عاماً عملت على حماية أنشطتها عبر تقاسم السُّلْطة والثروة مع بعض القيادات السياسية من المكونات الأخرى، وهو الوضع ذاته الذي أدَّى إلى الانفجار الشعبي في تظاهرات تشرين 2019 نتيجة تراكم المظالم وتغلغل الفساد في المؤسسات الرسمية الخدمية والأمنية والعسكرية والإنتاجية، وقيام مؤسسات الدولة بحماية الفاسد ومنظومة الفساد.

بناءً على ذلك فإن السيناريوهات المحتمَلة بعد اختيار رئيس جديد للوزراء تتمحور حول:

أولاً: رفض المتظاهرون كل ما هو مطروح أو مقترَح من الأحزاب السياسية، ولو كان مقبولاً أمريكياً وإيرانياً، ويعبّرون عن رفضهم بعدم العودة إلى البيت، كما يؤكدون ذلك دائماً، وهنا يجب التوقُّف بحذر وحرص أمام قضية اختيار رئيس الوزراء البديل، الذي يمكن أن يحلّ محلّ عادل عبد المهدي.

ثانياً: رضوخ ساحات التظاهرات للقهر والحل الأمني والعنف المفرط، ويعودون إلى بيوتهم لمدة محدودة من ستة شهور إلى سنة وهم يراقبون الإصلاحات وتلبية المطالب.

ثالثاً: احتمال بروز موقف أممي جديد، يقرّر وضع العراق تحت الوصاية الدولية، ما يسمى "البند السابع"، لتبدأ مرحلة ضغط سياسي واقتصادي وقانوني وربما عسكري على النظام السياسي العراقي، على أمل استخراج موقف جديد من الأحزاب السياسية المسيطرة تجاه مطالب الشعب بالوطنية الديمقراطية، مع ملاحظة أن هذا النهج إذا تَقرَّر فتَحَ، ولو على المدى البعيد، احتمال مواجهة مع المقاومة العراقية الدينية أو القومية أو الوطنية.

رابعاً: بذل الجهود باتجاه إعادة ترتيب تنسيقيات تظاهرات تشرين وإيجاد قيادة سياسية وطنية ديمقراطية للشعب العراقي على مستوى الحكومة الانتقالية الجديدة والانتخابات البرلمانية القادمة.

يمكن تصنيف نهج الحوكمة في حكومات المحاصصة بعد عام 2006 ضمن "نموذج تقاسم الغنائم" الذي يقوم على ثقافة الفاعل الهجين "ذراع نظامي وذراع غير نظامي"، وأن النظام السياسي يعمل لخدمة مصالح زعامات الكتل السياسية المسيطرة التي تسعى لتعظيم ثرواتها وأرباحها.

وفي هذا الإطار يمكن تفسير إخفاق التسوية والتهدئة والاحتواء المقترحة من الكتل السياسية وامتدادها داخل النظام السياسي القائم، وتسببها في الانسداد السياسي، وقد يُفاجأ الجميع بتفجُّر صراعات داخلية فصائلية لعدة أسباب، يتمثل أهمها في ما يلي:

أولاً: الخلاف على مواصفات المرشح الرئاسي البديل، ومدة الحكومة الانتقالية، والاختلاف على إعادة هيكلة نظم الحكم من خلال الانتخابات المبكرة ودعم دور الأحزاب السياسية الجديدة.

ثانياً: الخلاف حول اجتثاث وتجريف لوبيات الفساد ومافيات المكاتب الاقتصادية.

ثالثاً: إزاحة الانطباع الخاطئ حول قدرة الفواعل الهجينة على أن تحلّ محلّ الدولة الوطنية الديمقراطية.

رابعاً: الخلاف على تعريف الهُوِيَّة العراقية التي لا تؤمن بها التيارات الدينية السياسية العابر لحدود الوطنية، وهي قائمة على الأحادية والتصادم مع التنوع والاستيعاب، وتعتبر حالة التعايش مجرد حالة مسايرة مؤقتة ينبغي تجاوزها لتحقيق الرؤية في تصدير الثورة الإسلامية.

تَعدَّدَت مبادرات وجهود التسوية والتوفيق والوساطة بين أطراف البيت السياسي الشيعي في العراق، غير أن أغلبها لم ينجح في إنهاء الخصومة والجدل، إذ تجددت الاشتباكات الفصائلية بين فترة وأخرى في الجنوب العراقي، ويرتبط ذلك بافتقار هذه الفصائل وأحزابها السياسية إلى الوعي الصادق بتعريف انتمائهم وولائهم للدولة العراقية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً