سفينة شحن أثناء عبورها مضيق البسفور  (Murad Sezer/Reuters)
تابعنا

غير أن الطاقة التجارية لهذه المجموعة، المستندة إلى حسابات أولية بسيطة حول قدرات كلّ بلد واحتياجاته، يجب ألا تقلّ عن 200 مليار سنوياً، أي إننا أمام فرصة هائلة لرفع معدلات التجارة البينية، فرصة عظيمة متوافرة لكلٍّ مِن الشركات، والحكومات تقترب من 150 مليار سنوياً.

أرقام التجارة التركية مع العراق والإمارات ثم مصر فالسعودية التي تفوق 60% من إجمالي العلاقات العربية-التركية تخلق حالة من المفاجأة لواقع العلاقات الاقتصادية الذي لا يتناسب مع العلاقات السياسية المصطدمة بملفات سياسية وأمنية بينية، وهذا تماماً ما يجعلنا متفائلين بالفرص المتاحة في ظلّ تحسّن العلاقات السياسية مع كلٍّ مِن الإمارات ومصر والسعودية، ويبدو أن الواقع السياسي سيُشكّل رافعة قوية للعلاقات الاقتصادية.

من الناحية النظرية تستند فلسفة العلاقات التجارية الخارجية عند ابن خلدون إلى تحقيق المكاسب عبر المنفعة المكانية، أي انتقال السلع مِن بلد تقلّ فيه الأسعار إلى آخر ترتفع فيه. وفي معرض حديثه عن المنفعة المكانية رأى ابن خلدون أن الطرق والمواقع لها أهمية عالية في زيادة الربح، وضرَب مثلاً في زمانه عن السودان الذي يقلّ المعروض الدولي من سلعه بسبب الموقع البعيد ووعورة الطرقات، كما اعتبر ابن خلدون أن التعداد السكاني والتخصص وتنوع المهارات داخل المجتمع هو أحد العوامل البارزة في التجارة الدولية مما يرفع قدراته التجارية الخارجية.

هكذا فإن ابن خلدون ربط ازدهار التجارة الدولية بتعظيم المنفعة المكانية، أي سهولة انتقال السلع، وبحجم الأسواق وتنوع صناعاتها، وللحق فإن عامل التعداد السكاني يُعتبر أساس نظرية هكشر أولن السائدة في الاقتصاد الدَّولي التي ترى أن الدول تُصدّر السلع ذات الكثافة للعنصر الوفير داخل البلد، ثم إن المنفعة المكانية هي أساس تبرير قيام التجارة في نظريات كلاسيكية أخرى مختلفة.

وفي التطبيق العملي المعاصر لهذين المبدأين، نرى أن منطقة الشرق الأوسط ما تزال لم تستفد بالشكل الكافي من هاتين النقطتين بشكل يُقلل من مكتسبات كلّ دولة ويجعلها تخسر فرصاً بديلة ممكنة.

إذا نظرنا للخريطة، نلاحظ أننا أمام دول تمتلك كثافة في رأس المال كما هو واقع دول الخليج التي يتراوح متوسط دخل الفرد فيها ما بين 20 إلى 50 ألف دولار سنوياً، وبعضها الآخر يمتلك كثافة في العمل كما هو الحال عند مصر التي يفوق عدد سكانها 100 مليون نسمة، وكذلك تركيا التي تجاوز عدد سكانها 85 مليوناً، ثم إن الموقع الجغرافي الذي يقع في قلب العالم القديم يُضيف منفعة مكانية عظيمة في إطار التبادل التجاري الدولي.

تعزيز التعاون بناءً على نقاط روافع التجارة الدولية لن يُسهم في زيادة التجارة البينية وحسب، بل سيولّد فرصاً أكبر في مجال التجارة الدولية. فإجمالي الصادرات العربية لأكثر من عشرين دولة، بما في ذلك النفط والغاز، لا يتعدى 4% من حصّة الصادرات العالمية، وأيضاً الصادرات الدولية لتركيا تقارب 1% فقط أي أننا نتحدث عن 5% فقط من حصة الصادرات العالمية لدول تمتلك مؤهلات ضخمة.

أذكر هذه المسألة لأبيّن أن ما تمّ فعلياً هو جزء صغير من الممكن، لذا فإن فرصة زيادة التجارة والاستثمار البيني مرتفعة للغاية بين الدول العربية من جهة وتركيا من جهة أخرى، بناءً على عنصري المنفعة المكانية والميزة النسبية التي تمتلكها كل من هذه الدول، فتركيا تمتلك موقعاً جغرافياً عالي الأهمية بين آسيا وأوروبا يشكّل طريقاً للسلع المنتجة من المنطقة العربية إلى العالم الغربي سواء كانت هذه السلع محمولة على شاحنات أو سكك حديدية أو كان يمكن نقلها عبر الأنابيب كالنفط والغاز أو حتى عبر الأسلاك كالكهرباء، فتركيا استثمرت لسنوات طويلة في بنيتها التحتية اللوجستية ولا يخفى على المراقب حجم الطرقات السريعة وجودتها وكذلك المطارات والموانئ المنتشرة في البلاد فما بالك بالإختصاصيين.

كما تمتلك تركيا قوة عمالية ضخمة تفوق 30 مليوناً بأسعار رخيصة نسبياً، تتنوع تخصصاتهم وجودة أعمالهم، كل هذا مترافق مع إمكانات إدارية جيدة وكفؤة، على جانب آخر نرى أن دولاً عربية كدول الخليج تبحث عن أسواق استثمار مجدية تكون قليلة التكلفة مقارنة بالسوق الأوروبية وقادرة على تحقيق أرباح مماثلة لما هو عليه الحال في الأسواق الأوروبية، وهو ما يتوفر في الحالة التركية.

والفرص المتاحة اليوم للدول العربية عدّة عبر الاستثمار في تركيا يمكن أن تبدأ من قطاع الطاقة على سبيل المثال، حيث تدفع تركيا سنوياً ما يقرب من 45 ملياراً ثمناً لفاتورة الطاقة، الطاقة التي تتوافر في معظم الدول العربية بشكل أكبر من توافر المياه، ليس كسوق مبيعات وحسب، ولكن حتى كمركز عبور لوجستي عبر تجهيزات الأنابيب التي تمتلكها تركيا نحو الدول الأوروبية الساعية لتقليل الاعتماد على الموارد الروسية مما يفتح المجال لسوق بمئات المليارات سنوياً، وتُعدّ الطاقة الكهربائية أيضاً موضوعاً مهماً لتركيا التي تتموضع في وسط يمكن بواسطته بيع الكهرباء لأوروبا، وكذلك دول آسيا الوسطى التي عمّقت تركيا علاقتها معهم عبر منظمة الدول التركية المُعلن عنها أواخر 2021 وهذه الدول، دول آسيا الوسطى، لا تزال تعاني انقطاع الكهرباء بصورة دورية ويتنامى الطلب على الكهرباء بشكل كبير على أساس سنوي.

تسعى الدول العربية وعلى رأسها دول الخليج لإقامة علاقات اقتصادية متوازنة بين الغرب والشرق، ويبدو أن الصين بدأت تكتسح المنطقة لأسباب عدّة بعضها تحكمه الجغرافيا، فالاستثمار الصيني المتراكم في العالم العربي يناهز 200 ملياراً، يتركّز معظمه في السعودية والإمارات والجزائر، وتستطيع المبادرات الصينية مع دول الخليج العربي أن تصل إلى 600 مليار خلال عامين مقبلين، وتُعدّ المستودعات والطرق والموانئ التركية منفذاً جيداً للدول الخليجية نحو أوروبا، مما يقلل الكلفة ويوسّع الانتشار ويُساهم في تحقيق هذا التوازن ويجعل الدول العربية أكثر استفادة من دروس الماضي التي ترتكز إلى علاقات اقتصادية أو سياسية ترتكز إلى طرف واحد.

ومع انخراط الدول العربية المتزايد في صراعات عسكرية، عقب ثورات الربيع العربي، شكّلت الصناعات العسكرية التركية مجالاً جيداً للاستثمار والتعاون، فمصر باتت ثالث أكبر مستورِد للسلاح في العالم بالرغم من امتلاكها لأكثر من 27 مصنعاً حربياً معظمها يتبع وزارة الدفاع، فإنه من الواضح أن هذه المصانع تحتاج مزيداً من التقنيات والمهارات التي قد تفيد التعاون التركي في تطويرها، كما أن سياسة إبدال 50% من الواردات العسكرية السعودية التي تتضمنها رؤية 2030 بدأت بتعاون تركي عرقلته العلاقات السياسية، ومع دخول بعض كبار رجال الأعمال العرب مضمار التصنيع العسكري فإن فرصة الاستثمار تتزايد من خلال التعاون التركي-العربي.

تركيا كذلك سيكون لها فوائد كبيرة من الأسواق الخليجية والعربية، فهي تمتلك إنتاجاً ضخماً في جانب المواد الغذائية والمفروشات والكهربائيات والسلع الاستهلاكية المعمّرة والألبسة إضافة إلى طموحات بتصدير السيارات وأجهزة الهاتف الذكي إلى أسواق جديدة. وتشكّل الأسواق العربية فرصاً للمصدِّرين الأتراك الذين لا يحتاجون إلى جهد كبير لترويج سلعهم في الدول العربية.

يجيء انعقاد قمّة رجال الأعمال التركية-العربية السادسة عشرة في مدينة إسطنبول يومي 26 و27 يناير/كانون الثاني بمشاركة رجال أعمال ومستثمرين من 22 دولة عربية وسبع دول تركية في إطار تعزيز وتنمية الاستثمار التركي-العربي. وسيكون موضوع الاستثمار العقاري والقطاعات الداعمة له بالإضافة للاستثمار الصناعي والسياحي والصحّي الأكثر نقاشاً في القمة، والتي سيشارك فيها آلاف من رجال الأعمال والمستثمرين من نحو 30 دولة من ثلاث قارات.

يبدو أن 2022 سيشهد تطوراً لافتاً في تحسّن العلاقات السياسية التركية بكل مِن السعودية ومصر والإمارات، وهي الاقتصادات الأكبر في المنطقة العربية، فهل ستُقتنص الفرص الناجمة عن هذا التحسن؟

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً