تابعنا
تابع الفلسطينيون، كما كل المنطقة، اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وانشغلوا بصدور ردود الفعل على هذا الحدث الكبير، كون الرجل لديه صلات وثيقة مع الفصائل الفلسطينية، حيث أشرف على تزويدها بالوسائل القتالية والدعم المالي.

فور انتشار خبر الاغتيال، أصدرت معظم الفصائل الفلسطينية، باستثناء فتح التي يقودها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بيانات تعزية وتضامن مع إيران، وأكدت أنها خسرت قائداً شجاعاً، لأنه قدّم الدعم للمقاومة في فلسطين، وكان قائداً ميدانياً لم يفارق الساحات، كما جاء في بيانات النعي للفصائل الفلسطينية.

ليس سراً أن سليماني كان ضابط الاتصال بين القيادات السياسية والعسكرية الفلسطينية من جهة، ونظيرتها الإيرانية من جهة أخرى، حيث تواصل معهم على مدار الساعة، مما يجعل من المتوقع أن تصدر ردود الفعل الفلسطينية هذه على الاغتيال.

يبقى السؤال حول إمكانية أن تكتفي الفصائل ببيانات تعزية فقط وحملات إعلامية، وإقامة بيت عزاء في غزة، أم يتجاوز الأمر إلى رد عسكري ضد إسرائيل، وهل هناك توافق فلسطيني على الرد، أم تخرج ردود انفرادية ينقسم الفلسطينيون حولها؟ وهل سيكون الإيرانيون معنيين بتصدير خلافهم مع أمريكا بأذرعها الفلسطينية.

لعل من شأن اغتيال سليماني، وحالة التضامن الواسعة مع إيران، التي أبدتها الفصائل الفلسطينية، لاسيما حماس، أن يزيد من مستوى العلاقات الثنائيّة بين حماس وإيران، ويمنحها تقارباً جديداً، لاسيما بعد أن شهدت هذه العلاقة تصاعداً تدريجياً مع الزيارات المتكرّرة من قادة الحركة لإيران، وصدور تصريحات متبادلة عن قوّة العلاقة بينهما.

يأتي اغتيال سليماني، وتعزية الفصائل الفلسطينية به، لاسيما حماس، آخر محطّات تقاربها مع إيران، مما يجعل الحركة تعتبر تعزيتها لطهران رغبة منها بتوظيف ما يمكن تسميته بـ"دبلوماسية التعازي" لتوثيق علاقتها بها، بعد أن قدّمت التعزية إلى سليماني ذاته بوفاة والده في نوفمبر من عام 2017، كما قدّمت حماس في يناير من عام 2017 تعزية مماثلة بوفاة الرئيس الإيرانيّ السابق هاشمي رفسنجاني، فضلاً عن تقديم التعزية لإيران بقتلى الهجوم الذي حصل في سبتمبر 2018 على عرض عسكريّ إيرانيّ في الأهواز.

لكن الحركة ترى أنها لا تحتاج إلى دبلوماسيّة التعازي لتوثيق علاقتها بطهران، فما قامت به تجاه التعزية باغتيال سليماني، واجب إنسانيّ وبروتوكوليّ مع الجهات التي تربطها بها علاقات سياسيّة، ومع كلّ الدول العربية والإسلامية.

ورغم وجود علاقة خاصّة لحماس بإيران، فلديهما عدوّ مشترك هو إسرائيل، وتعزية الحركة لإيران باغتيال سليماني ليست تدخّلاً في شؤونها الداخلية أو سياستها الخارجية، وليست وقوفاً من حماس ضد أحد في المنطقة، ولا يجب أن تكون التعزية قطيعة لأحد، فهذا أمر ترفضه الحركة، لأنّ لديها علاقات واسعة مع كلّ العالم العربيّ والإسلاميّ.

في الوقت ذاته، قوبلت تعزية حماس باغتيال سليماني بمواقف عربية وفلسطينية ناقدة لها، وتساءل المعارضون لها: كيف تريد حماس أن نقف معها وهي تقف مع إيران، وتعزي في سليماني الذي أشرف على قتل العراقيين والسوريين واليمنيين؟

إنّ تعزية حماس لإيران باغتيال سليماني لا يعني أنّهما متّفقتان في كلّ شيء، فرغم أنّ إيران هي الجهة الوحيدة التي تدعم الحركة بالمال والسلاح، فقد نشأ بينهما خلاف حاد بعد الثورة السورية، لكنّ إيران لم تقطع علاقتها بحماس، وأبقت قدراً من الدعم الضئيل.

كما تعتبر تعزية حماس لإيران استمراراً للنهج الذي سارت عليه الحركة بتوثيق علاقتها بها، التي تصفها بالممتازة، لأنّها تقدّم للحركة الكثير ممّا تفتقده عند الآخرين، ومع ذلك فإنّ تعزية حماس لإيران باغتيال سليماني هي أحد أشكال تقاربهما، وإدانة من حماس لهذه الجريمة، ورغبة في إبقاء البوصلة ضدّ إسرائيل.

في الوقت ذاته، فإن ذلك قد يتطلب من حماس موازنة علاقتها بإيران مع الآخرين، وإن كانت التعزية قد تستفزّ جهات أخرى في المنطقة، رسمية وشعبية، نظرا للإرث السلبي الذي تركه سليماني لدى عموم الشعوب العربية في الدول التي تشهد نفوذاً إيرانياً متزايداً، خاصة في الخليج وسوريا والعراق واليمن، مع أن إيران تستفيد من مواقف حماس لتنظيف سمعتها المتدهورة بسب تدخّلاتها في هذه البلدان.

على كل الأحوال، يبدو أنّ حماس ماضية في توثيق علاقتها بإيران، بغضّ النظر عن انتقاد هنا أو اعتراض هناك، فالحركة ترى أنّ خياراتها الإقليميّة ليست في أحسن أحوالها ولم يعد غير إيران الجهة التي تمدها بالسلاح والمال.

في السياق ذاته، كشف الإعلام الإسرائيلي أن وفداً أمنياً إسرائيلياً رفيع المستوى وصل إلى القاهرة بعد ساعات من اغتيال سليماني، والتقى رئيس المخابرات المصرية اللواء عباس كامل، للتدخل لدى الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، خصوصا حماس والجهاد الإسلامي، لثنيها عن مهاجمة إسرائيل رداً على اغتياله، لأنه من الداعمين الأساسيين لهما.

هذا يعني أن إسرائيل تخشى أن يجر رد متوقع من الفصائل في غزة على اغتيال سليماني، إلى تصعيد عسكري معها، وهي لا تريد الانشغال بجبهة قطاع غزة حالياً، بسبب تركيزها على الجبهة الشمالية في سوريا ولبنان، خاصة بعد التهديدات التي أطلقها المسؤولون الإيرانيون لإسرائيل والولايات المتحدة، عقب اغتيال سليماني، وفي ضوء التقدير الفلسطيني الذي يرى أن ثمة يداً إسرائيلية في اغتيال أمريكا لسليماني.

لقد جاء اغتيال سليماني في وقت تتزايد الدعوات حول توحيد جبهات المقاومة ضد إسرائيل، بحيث أن أي عملية واسعة تشنها الأخيرة ضد واحدة من هذه الجبهات، سواء لبنان، سوريا، إيران، أو غزة، ستتعامل معها باقي الجبهات على أنها استهداف لكل محور المقاومة، وفي هذه الحالة فإن كل المحور جاهز للرد في حال حصول أي عدوان، في ضوء أن معظم الجبهات المحيطة بإسرائيل باتت شبه متفجرة، بانتظار الصاعق الذي قد يشعلها، وها قد أتى الصاعق باغتيال سليماني.

في هذه اللحظات، يطرح اغتيال سليماني جملة من التساؤلات على الفلسطينيين، ومنها: هل تشن إيران هجوماً على إسرائيل، رغم أنها ليست المسئولة المباشرة عن الاغتيال؟ وفي هذه الحالة سترد الأخيرة عليها، مما قد يشعل باقي الجبهات، مجتمعة أو منفردة، أم تبدأ تلك الجبهات هجومها على إسرائيل بصورة موحدة، وما مواقف الفلسطينيين من الانضمام لإيران وحزب الله، وماذا سيكون موقف إيران والحزب في حال تعرض غزة لعدوان إسرائيلي؟

تعتقد أطراف المحور الإيراني أن الاشتراك دفعة واحدة بأيّ مواجهة، وإمطار إسرائيل بالصواريخ على كلّ الجبهات، له مبرّرات أخلاقيّة ووطنيّة ومصلحيّة، لأنه بعد انتهاء إسرائيل من حرب حزب الله ستواصل معركتها في غزّة، أو العكس، مما قد يمنح هذه المواجهة طابعاً إقليميّاً.

جرت العادة أن تخوض إيران معاركها بأيدي الآخرين، وعلى أراضيهم، وربما لهذا السبب تدعمهم وتمدهم بالمال والسلاح، وربما لن تجد فرصة أكبر من اغتيال سليماني لإثبات مدى جدية تنامي علاقاتها بالفلسطينيين، رغم حساسيّة موقفهم وصعوبة تقديراتهم.

لكن التطورات المتلاحقة في المنطقة، قد تدفع إيران لإيجاد جبهة عسكرية جديدة موحدة ضد إسرائيل، ستعمل انطلاقاً من سوريا ولبنان وغزة، في ظل توثيق إيران علاقاتها بالمنظمات الفلسطينية، فترد على إهانة إسرائيل وأمريكا لها عبر الأراضي الفلسطينية.

لا يخفي الإيرانيّون رغبتهم في رفع وتيرة القتال ضدّ إسرائيل من خارج أراضيهم، وهم يملكون أدوات مختلفة تمكّنهم من تذليل العقبات لإيصال ما يريدونه من أسلحة وأموال إلى الأراضي الفلسطينيّة؟ فلديهم سيطرة معيّنة على الممرّات المائيّة في المنطقة القريبة من القرن الإفريقي، ويمكنهم استغلال الأحداث في سوريا للاقتراب من الحدود المتّصلة جغرافياً بفلسطين والأردن.

تزعم إسرائيل أن هذا التوجه الإيراني ليس مفاجئاً لها، وقد يكون آن أوانه بعد اغتيال سليماني، فالأذرع العسكرية الفلسطينية جزء لا يتجزأ من المحور العسكري الإيراني العامل ضدها، وتواصل طهران إرسال الأموال لها، كي ترسل رسالة لها بأنها أحد الأجزاء الأربعة المكونة للمحور القائم في المنطقة، بجانب إيران وسوريا وحزب الله، وهذا يحقق حلماً إيرانيّاً باستكمال حلقات الإحاطة بإسرائيل، ليتم إمطارها بعشرات الآلاف من القذائف الصاروخية عند لحظة الصفر.

لا يرى الفلسطينيون أنهم ملزمون بخوض معارك الآخرين على أراضيهم، حتى لو تعلق الأمر باغتيال سليماني، المسئول الأول عن دعم فصائلهم وقواهم المسلحة بالمال والعتاد، رغم أن إيران تعتبر الداعم الأساسيّ للفصائل الفلسطينيّة، مما قد يجعلها تقرّر إطلاق معركة متعدّدة الجبهات انتقاماً لجنرالها القتيل، لكن ذلك سيضع أمام الفلسطينيين تحدياً في الاستجابة لهذا الطلب الإيرانيّ، أو رفضه.

ورغم أن الإيرانيين يرون في المشاركة الفلسطينية مسألة لازمة لتحقيق سياسة تقاطع النيران وتوحيد الجبهات، لكن الفلسطينيين توقعوا من إيران ذاتها، أو حلفائها في المنطقة، أن يساندوهم في الحروب الإسرائيلية عليهم في أعوام: 2008 و2012 و2014، لكنّهم لم يقوموا بذلك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي