تابعنا
ربما لم تمر على مدينة القدس منذ احتلالها من قبل القوات البريطانية عام 1917 حتى اليوم فترة حالكة السواد كما كانت السنوات الأربع العجاف التي حكم فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب البيت الأبيض.

ولم يكن ذلك متعلقاً بالدرجة الأولى بشخص الرجل بقدر ما كان يتعلق بالطغمة التي سلمها ترمب مفاتيح قضية القدس بكل حساسياتها وخطورتها لتعبث بها من دون حسيب أو رقيب، وأعني بذلك الثنائي المتعجرف المتطرف كوشنر-فريدمان. وإن كان البعض يضيف إليهم المتطرف جيسون غرينبلانت مبعوث ترمب للسلام في الشرق الأوسط، الذي قفز من مركب ترمب باستقالته العام الماضي.

جاريد كوشنر كان يظن أن قراءة خمسة وعشرين كتاباً عن خلفيات القضية الفلسطينية تكفيه لصياغة واحدة من أسوأ خطط إنهاء الصراع في فلسطين، التي عرفت بـ"صفقة القرن".

وديفيد فريدمان كان كثيراً ما يختلط عليه دوره سفيراً للولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل، حتى يظنه المراقبون المندوب السامي الذي يحكم القدس نيابة عن ترمب، حتى إنه نقل مسكنه إلى إحدى المستوطنات إمعاناً في إظهار تعاطفه مع التيار اليميني المتشدد في إسرائيل. هذه المجموعة التي سلمها ترمب مفاتيح القدس ومصيرها مع كل ما تمثله من حساسية عالمية عبثت بوضع المدينة المقدسة وأثرت فيها خلال أربع سنوات بما لم تجرؤ عليه أية حكومة إسرائيلية أو أمريكية أو غيرها في تاريخ الاحتلال، بما فيها حكومة نتنياهو نفسه. 

ولذلك، فإن حالة الحداد التي خيمت على دولة الاحتلال والجماعات اليمينية المتطرفة في إسرائيل كانت مبررةً إلى حد كبير. فترمب أعطى إسرائيل في القدس ما لم يعطها أحد من الزعماء في العالم عبر التاريخ الحديث، فلم يجرؤ أحد من الرؤساء الأمريكيين على تنفيذ قرار الكونغرس بنقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس، حتى جاء ترمب ونفذ ذلك بجرة قلم، وتبجح في خطابه الشهير الذي أعلن فيه ذلك أنه أزاح القدس من طاولة المفاوضات لخدمة السلام، بحيث ينتهي الحديث عن القدس التي قرر ترمب ومجموعته تمليكها لإسرائيل. 

والآن، بعد فشل ترمب في الفوز بالانتخابات وصعود الديمقراطيين بزعامة بايدن لسدة الحكم، فإن الحديث عن مصير المدينة المقدسة يطفو على السطح مرةً أخرى، إذ بدأت السيناريوهات ترتسم فيما يتعلق بمستقبل القدس ومستقبل صفقة القرن وكل ما يتعلق بها من قرارات أعلنتها إدارة ترمب. 

 كذلك فإن ما يمكن أن تفعله هذه الإدارة ما بين هذه اللحظة ويوم 20 من يناير/كانون الثاني القادم أصبح مسألةً مثيرةً للبحث والقلق. فما صنعته إدارة ترمب في القدس جعل المنطقة كلها لا القدس فقط تقف على صفيح ساخن يمكن أن ينفجر في أية لحظة. 

السؤال الأول الذي يدور في أروقة المتابعين هنا: هل سيتغير شيء في مسألة القدس مع قدوم إدارة بايدن؟ والجواب الذي أتوقعه هو: ليس تماماً. 

ففيما يتعلق بنقل السفارة إلى القدس، فإن علينا أن لا ننسى أنه كان قراراً اتخذه الكونغرس الأمريكي عام 1995 في عهد إدارة كلينتون الديمقراطية. ولم يكن لدى أي رئيس أمريكي منذ ذلك الوقت خيار إلغاء قرار الكونغرس، ولذلك كان الرؤساء الأمريكيون حتى عهد ترمب يكتفون بتأجيل تنفيذ القرار مرةً كل ستة أشهر كما يتيح لهم الدستور الأمريكي من باب الخروج من الإحراج أمام العالم. 

والآن بما أن ترمب قد أقدم على تنفيذ القرار، فإن أية إدارة أمريكية لن تؤجل تنفيذ القرار لأنه نُفِّذ بالفعل! وبالتالي فإنني أظن أن إدارة بايدن ستحتج بذلك لإراحة نفسها من عناء التعامل مع قضية السفارة الأمريكية في القدس، ويكفيها في ذلك أن تلقي اللوم على ترمب الذي خرج عن تقاليد الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين منذ 1995 ونفذ قرار الكونغرس بدلاً من أن يؤجله. 

لكن الإدارة الأمريكية الجديدة ستضطر إلى ضبط عيارات مواقفها السياسية فيما يتعلق بالقدس في الفترة القادمة باعتبارها مسألةً حساسةً جداً ومحرجةً لها، بخاصة أن العالم كله وجَّهَ صفعةً لإدارة ترمب السابقة عندما أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بموافقة 128 دولة رفضت فيه تغيير الواقع في القدس، باعتبارها أرضاً تحت الاحتلال غير الشرعي. ولذلك فإنني أتوقع أن الإدارة الحالية ربما تسعى لتخفيف وطأة الإجراءات التي نفذتها الإدارة السابقة عبر العودة للحديث عن حل الدولتين وعن عودة التفاوض على قضية القدس باعتبارها من قضايا الحل النهائي حسب خطط السلام السابقة.  

لكن ذلك لن يكون له تأثير يذكر على الأرض في القدس في موضوع الاستيطان والسفارة وغيرها، فالإدارة الأمريكية الجديدة لا تقل تأييداً لإسرائيل في العموم عن الإدارات السابقة وإن كانت منطلقاتها مختلفة.  

نعم يمكن أن يقول أحدهم إن زوج نائبة الرئيس الأمريكي يهودي متدين متعصب لإسرائيل، وإن بايدن كان يصرح منذ أكثر من أربعين سنةً بصهيونيته ودعمه المطلق لإسرائيل. لكن ذلك فيما يبدو كان ينطلق من منطلقات سياسية أكثر منها دينية.  

فبايدن صرح في يونيو/حزيران عام 1986 عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ بأنه "لو لم تكن توجد إسرائيل، لكان على الولايات المتحدة الأمريكية اختراع إسرائيل"، وصرح في إبريل/نيسان عام 2007 قبيل بداية حملته الانتخابية مع أوباما بأن "إسرائيل تعد القوة الأكبر للولايات المتحدة في الشرق الأوسط"، وفي ذلك التصريح بيَّنَ أن أهمية إسرائيل تنبع من كونها حائط الصد الذي يخفف على الولايات المتحدة عدد السفن الحربية والجنود الذين ينبغي أن يتمركزوا في الشرق الأوسط لحماية المصالح الأمريكية.  

ومن هنا يتبين أن منطلقات بايدن في دعمه لإسرائيل لا تنطلق من منطلق أيديولوجي كما هو الحال لدى كوشنر وفريدمان في إدارة ترمب. لذلك فإني أتوقع أن تخفف الإدارة الأمريكية الجديدة اندفاع سابقتها فيما يتعلق بالقدس سياسياً بشكل ملحوظ. 

السؤال الثاني هنا: ماذا يمكن أن نتوقع من إدارة ترمب فيما بين اليوم وتسلُّم الإدارة الجديدة الحكم في 20 يناير/كانون الثاني القادم؟ 

وفي نظري إن هذا السؤال هو السؤال المركزي الذي ينبغي التعمق فيه، فإدارة ترمب تتميز عن سابقاتها بكون علاقتها بقضيةٍ كبرى كالقدس لم تكن تقوم على حسابات سياسية براغماتية، وإنما كانت تقوم على أسس أيديولوجية دينية عميقة يمثلها الثنائي كوشنر-فريدمان، اللذان تربطهما علاقات قوية عميقة باليمين الإسرائيلي المتطرف، بل إنهما يكادان يكونان من أهم الداعمين لجماعات المعبد المتطرفة وجماعات اليمين الدينية في إسرائيل. 

فهما شخصان يعتبران خطيرين جداً عندما يتعلق الأمر بالقدس ومقدساتها. ولذلك فإنني لا أستبعد أن يقود هذان الشخصان المتطرفان تياراً يحاول أن يقود المنطقة لإيجاد موطئ قدم دائم للجماعات الدينية المتطرفة في المسجد الأقصى المبارك قبل أن تستلم الإدارة الأمريكية الجديدة الحكم.  

وهذا الأمر قد ينظر إليه نتنياهو بدوره إيجابياً، كملاذ أخير للإفلات من مصير ترمب الذي يطارده حالياً مع ازدياد المظاهرات ضده من المعارضة، وذلك عبر اللجوء إلى الجماعات شديدة التطرف ومحاولة استمالتها لحمايته من السقوط مقابل إيجاد موطئ قدم لها داخل المسجد الأقصى، وبمعاونة التيار اليميني المتطرف في الإدارة الأمريكية المنتهية كموقف أخير يحسب لها لدى اليمين الإسرائيلي والأمريكي على حد سواء.

كل ذلك لا يمكن وقفه ما لم يتوفر تحرك شعبي قوي في القدس في الفترة القادمة، فالموقف الشعبي المقدسي الذي أهملته إدارة ترمب وأغفلت وجوده بل وشطبته من الخريطة تماماً، أثبت قدرته دائماً على منع هذه التحركات وتأخيرها كما بدا واضحاً بهبّة باب الأسباط عام 2017 وهبّة باب الرحمة عام 2019. ولنتذكر أن الوقت لم يعد الآن في صالح اليمين المتطرف بإسرائيل والولايات المتحدة كما كان، بل أصبح لأول مرة في مصلحتنا نحن في القدس. 

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي
الأكثر تداولاً