تابعنا
يبدو عنوان هذا المقال ملتبساً بعض الشيء، قد يسأل سائل: هل يوجد كردي وطني، وكردي عابر للوطنية؟ الجواب على هذا السؤال يكون بتوضيح ضروري، وهو أننا نقصد أن الكردي هنا ليس الفرد الواحد، بل هو النموذج السياسي والفكري.

هذا السؤال يرتبط بجذر وعي المسألة الكردية لدى المجموعات والنخب السياسية والفكرية الكردية في مناطق توزع الأكراد الجغرافية في الدول التي يشكلون فيها مكوناً من المكونات القومية، وهذه الدول هي (إيران - العراق - تركيا - سوريا).

ولعل من الطبيعي أن نذكر أن الفكر القومي لشعوب المنطقة هو فكر حديث، نهض مع نهايات حكم الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن الفكر القومي الكردي وما نتج عنه من دعوة إلى إقامة دولة كردية يمكن اعتباره فكراً أكثر حداثة ويتصل بقيام "جمهورية مهاباد" التي عاشت أحد عشر شهراً عام 1946 في إيران، وجرى إعدام قادتها وعلى رأسهم رئيس جمهوريتها قاضي محمد.

إن فهم القضية الكردية يتطلب فهم الركائز الأساسية للفكر القومي الكردي، فبدون هذا الفهم، لا يمكن توسل معرفة اتجاهات تطور القضية الكردية، وبالتالي لا يمكن معرفة العجز البنيوي، الذي يقف خلف حل هذه القضية، وفق رؤية علمية صحيحة، بعيداً عن الأيديولوجيا الكردية، التي ارتكزت على وعي عشائري وديني، ولم ترتكز على وعي مرتبط بدرجة تطور البنى الاجتماعية الكردية في مناطق وجودها.

الخطاب القومي الكردي بعموميته لا يزال أسير مراحل تطور تجاوزها الزمن، فالطروحات القومية الكردية بدت من الناحية الأيديولوجية وكأنها متوقفة عند لحظة ما بعد الحرب العامية الأولى، إذ تبدو المفاهيم التي تنطلق منها الحركات والأحزاب الكردية مثل اللغة والهوية العرقية والعادات والتقاليد، وكأنها مستمدة من فكرة (الروح القومية) التي شكلت جوهر الفكر القومي الألماني بعد الحرب العالمية الأولى.

إن القناعة السياسية لدى النخب الكردية بعمومها تقوم على ضرورة رئيسية هي "قيام كيان قومي كردي مستقل"، وهذا الكيان يشكل جوهر المشروع القومي الكردي، في وقت لا تزال النظرية السياسية لهذا المشروع هي نظرية تتحكم بها أيديولوجية الحركات القومية الكردية، ذات المنشأ العشائري والديني والقومي الغامض، وهي أيديولوجيا ما قبل وطنية، باعتبار المكوّن الكردي جزءاً من المكونات الوطنية الأخرى في الدولة المعنية، التي يعيش فيها هذا المكون.

هذه النظرية تفتقر إلى تحليل علمي صارم للواقع السياسي والتطوري لدول المنطقة التي تعيش فيها المكونات الكردية، هذا الواقع ليس متخيلاً ولا يمكن رسمه وفق منظور محدود الرؤية، فحقيقة الأمر أن الدول الأربع (إيران - العراق - تركيا - سوريا) هي دول لا تزال في مرحلة التطور القومي، ولم تتجاوز هذه المرحلة، إذ إن تجاوزها يحتاج إلى تطور عميق في بناها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وما دامت عتبة هذا التطور لا تزال بعيدة عن إنجاز مهامها، فلا يمكن للقوى القائدة للمجتمع اقتصادياً وسياسياً أن تقبل مشروعاً مهدّداً لمشروعها القومي، مشروعاً تقسيمياً أو انفصالياً يضعف من سياق تطورها التاريخي.

قد تبدو العملية غامضة لدى النخب السياسية الكردية، وهو ما يضعها دائماً في مواجهة حقيقية صدامية مع الطبقات السياسية الحاكمة في الدول، التي يشكل المكون الكردي أحد مكوناتها الوطنية. وتوجد مشكلة أخرى تواجه المشروع القومي الكردي، سببها اعتماد النخب السياسية الكردية على رؤية عدائية للشركاء القوميين في الدول التي يعيشون فيها مع هؤلاء الشركاء.

هذه النظرة العدائية تستند في عمقها الفكري إلى فكرة أن الآخر اغتصب حق المكون الكردي في إقامة كيانه السياسي. هذه النظرة لا تساهم بالمعنى الاستراتيجي في حل القضية الكردية وفق برنامج سياسي قد يطول زمنه تبعاً لتطور البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لهذا فإن النظرة العدائية دفعت أصحاب المشروع القومي الكردي إلى البحث عن حلفاء لهذا المشروع خارج الأطر الوطنية، وهو ما جعل من أصحاب هذا المشروع في وضع غير محمود بالمعنى القومي أو السياسي.

وظهرت هذه النظرة العدائية لدى النخب السياسية الكردية من خلال استدعاء إسرائيل أو الولايات المتحدة إلى صراعهم السياسي مع أنظمة الحكم في بلدانهم، وهو استدعاء ثبت فشله لأنه لم يقرأ حركة الواقع وتطوره في هذه البلدان.

هنا يمكننا الدلالة على مثل هذا السلوك السياسي من خلال تجارب كردية، مثل تجربة حزب العمال الكردستاني "التركي" مع الدولة التركية، ومثل تجربة حزب PYD مع الثورة السورية، كذلك من خلال تجربة إقليم كردستان في العراق، التي استقوى فيها على شركائه العراقيين من خلال دعم الولايات المتحدة مشروع حمايته كإقليم مستقل، على الرغم من أن نظام البعث العراقي منح هذا الإقليم حكماً ذاتياً بصورة رسمية منذ عام 1970.

إذن يمكننا القول إن الأيديولوجية المتحكمة برؤية النخب السياسية الكردية تقف خلف هذا الصدام الدموي، وتعرقل حل القضية الكردية وفق سياق تطوري طبيعي في الأوطان التي يعيشون فيها. هذه الأيديولوجية اتضح أنها غير قادرة على إيجاد معادل سياسي يرتكز على تطور البلدان التي تشكل المكونات الكردية في البلدان الأربعة جزءاً منها.

هنا تبدو مهمة المفكرين والنخب الثقافية الكردية مهمةً ضرورية في اشتقاق رؤية سياسية صحيحة تضع حل المسألة الكردية على سكة صحيحة ترتبط بتطور بنى المجتمعات، التي تنتمي إليها المكونات الكردية في الدول الأربع.

إذن يمكننا التمييز وفق هذه الرؤية بين نموذجين كرديين. النموذج الأول، ويمكن أن نطلق عليه تسمية "النموذج الكردي الوطني"، وهو في الواقع لا يزال ضعيف الأداء سياسياً وفكرياً، والذي يقول إن المكون الكردي هو جزء من المكونات الوطنية الأخرى، وهناك ضرورة للعيش في هذا الأفق الوطني، للوصول تدريجياً إلى مرحلة الحقوق المتساوية لجميع المكونات. وهذا المكون يرفض فكرة إقامة دولة كردية في شروط واقع لا يسمح بقيامها، مما يجنّب الأكراد مآسي تقف خلفها أيديولوجيا غير واقعية. ومما يمنع وضع معرقلات أمام تطور البلاد. ويمكن الاستدلال على هذا النموذج بـ"رابطة الكرد المستقلين".

النموذج الثاني هو النموذج الكردي العابر للوطنية، وهو لا يقرأ بنية تطور المجتمع الذي يحيا بين ظهرانيه كمكون أصيل فيه، هذا النموذج يمثله في تركيا حزب PKK الانفصالي وحزب الـPYD في سوريا، وهما حزبان معنيان بإجراء مراجعة فكرية سياسية لأيديولوجيتهما غير المشتقة من حركة الواقع وتطوره.

إن فكرة قيام دولة كردية كان من الممكن تحققها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى لو كانت درجة تطور البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لدى المكونات الكردية بلغت درجة حمل مشروع قومي سياسي، ولكن ذلك لم يكن موجوداً.

لهذا نعتبر أن سياسات حزب PKK وسياسات حزب PYD هي سياسات عابرة للوطنية، لأنها لا تشتق رؤيتها من تطور بنى مجتمعات بلدانها، بل تقفز فوق هذه البنى، وفوق درجة تطورها، ما يضعها في سياق رؤية غير واقعية، تؤدي بها إلى صدامات تضر بالمكونات الكردية في بلدانها الوطنية.

فهل تنهض النخب الفكرية الكردية بمشروع مراجعة حقيقية للأيديولوجية القومية الكردية التي تغرّد خارج نسقها الوطني، أو تبقى أسيرة أيديولوجيا تجاوزها التطور؟.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً