تابعنا
لا يمثل المستبد شعبه بل يمثل نفسه والنخبة التي تمالئه، وهو إذ يحاول تحميل الشعب عثرات استبداه فإنما يحاول التعتيم بذلك عن مساوئه وانعدام شرعيته.

كان المناضل الأمريكي الأفريقي الشهير مالكوم إكس (أو مالك الشبّاز) جالساً مع بعض أصدقائه السود الآخرين في أوائل ستينات القرن الماضي، غالباً في نيويورك، وسمعهم يتحدثون عن أحد سفراء الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت، ولكن لفت نظره استخدام كلمة "سفيرنا". 

مالكوم إكس توقف عندها كثيراً وحللها كثيراً، وقدّمها لاحقاً في بعض خطبه الشهيرة:

إلام تشير "نا" المفعولين هذه في كلمة "سفيرنا"؟ ومن أنتم في قولكم "فريقنا الرياضي" أو "ووزيرنا" أو "وزارتنا" أو منشئتنا الحكومية". إلى آخر هذه العبارات الشبيهة الطويلة التي تعطي الإنسان شعوراً مصطنعاً وكاذباً بالدفء والانتماء؟

كان التحفّظ الأهم لمالكوم إكس هو على أن هؤلاء السود الذين برغم مرور مائة عام على "إعلان التحرير" في ستينات القرن الماضي كانوا لايزالون يرزؤون تحت وطأة بقايا السلوك الاستعبادي والتمييزي.

أسوأ ما يصنعه المستبد في ذهنية المستعبدين هو أنه يملي عليهم صراعاته الخاصة ومشاكله وجرائمه ويقدمها وكأنها مشاكل عامة.

عبد الله العودة

فكان يُمارَس التمييز ضدهم في المدارس والدور العامة، ويتم التعامل معهم بدرجة أقل من الإنسانية، ولايزالون يمتهنون المهن الرديئة، ولا يحضون بأي من الحقوق الأساسية التي كان يتمتع بها الرجل الأبيض في أمريكا. 

بينما يتمتّع الأبيض بحق التصويت وحق المشاركة السياسية والبرلمان، وحق التصويت والترشح، وحق العمل وحق المدرسة وكل الحقوق؛ كان الإنسان الأسود يعاني بل وحتى الأقل بياضاً أو من يسمون بالملونين لأجل الظفر ببضع حقوق ولقمة عيش يقتاتون بها حتى يستطيعوا فقط أن يتنفسوا وأن يعيشوا دون الكفاف.

في مجتمع كان يحرم كل هؤلاء السود من حقوقهم، كانوا يفرضون على هؤلاء السود كل واجبات المواطن مثل الخدمة في الجيش والاستشهاد في سبيل الوطن، والتضحية بالنفس والمال وكل شيء لأجل الوطن.

بينما هذا الأسود لا يُعامل كمواطن حقيقي، ولا يُمنح حقوقه الأساسية. بمعنى أن عليه كل واجبات المواطنة والحماية والأمن والخدمة في الجيش، بينما لا يملك حقوقه الأساسية. فهو عليه غُرْم المواطنة وليس له غُنْمها!

ثم بعد هذا كلّه يتحدث هذا المواطن المحروم من كل حوق المواطنة عن الوزير والسفير والفريق بوصفه فريقهم ووزيرهم وسفيرهم.

يقول "وزيرنا" وهو لم يكن له في أي يوم أي دور شعبي في اختيار هذا الوزير، ويتحدث حين يقول "سفيرنا" عن سفير الدولة وكأن هذا السفير يمثّل مصالحه الشعبية العامة ورؤاه وطموحاته. ويقول "فريقنا" وكأنه كان له أي مشاركة شعبية في تشكيل هذا الفريق أو رسم سياساته العامة أو الانتخاب فيه.

سيكون السفير والوزير سفيرنا ووزيرنا فقط حينما يمثّل قيمنا العامة، ويكون لنا دور ومشاركة في انتخابه وحضوره وتقييمه، ورسم سياساته العامة من خلال مجالس شعبيه منتخبة، ومن خلال مجالس نيابية تشرف على أعمالهم وتشرف على الميزانية، وتملك حق منح الثقة وسحبها، وتملك حق المحاسبة والمراقبة والاستجواب.

مآزق المجموعة الفاسدة والطغمة الصغيرة التي تدير مقدرات البلد بشكل استبدادي لا يمكن أبداً أن تمثّل الناس والشعب وأعمالهم وقيمهم.

عبد الله العودة

تلك المجالس الشعبية المنتخبة ستكون البوابة الحقيقة التي يمرّ عبرها أي وزير وسفير ومسؤول لكي يكون "سفيرنا" و"ووزيرنا" و"مسؤولنا"، وإلا فإن هؤلاء بالأحرى هم "وزراؤهم" و"سفراؤهم" و"مسؤولوهم".

لأنهم يعبرون عن مجموعة صغيرة نافذة، وشريحة فاسدة تستولي على القرار وتديره بشكل غير مسؤول ولا مشروع من غير شراكة شعبية ولا توزيع عادل للثروة.

أسوأ ما يصنعه المستبد في ذهنية المستعبدين هو أنه يملي عليهم صراعاته الخاصة ومشاكله وجرائمه ويقدمها وكأنها مشاكل عامة، ويجعل الشعب يخوض تلك الصراعات وينخرط فيها وكأنها صراعات تخدم مصالح ذاك الشعب وقيمه وأولوياته.

ويملي هذا المستبد شخصيات تخدم الطغمة الفاسدة وكأنها تخدم عموم الناس ومصالح الشعب بالمجمل.

فتجد الناس الذين يقعون ضحية الاستعباد والاستبداد لا شعوريا يدافعون عن مصالح تلك الفئة الصغيرة وامتيازاتها. ويتحدثون عنها وكأنها تمثلهم وتمثّل مصالهم، وينظرون للمسؤولين فيها وكأنهم مسؤولون يمثّلون رغباتهم، وتلك آفة يعمل عليها المستبد سنيناً طويلة ويسخّر لها كل آلاته الإعلامية، وذبابه لكي يوحي للناس والشعب أن تلك الصراعات يحتاجها الناس لأجل خدمتهم وغاياتهم، بينما هي بالفعل ليست كذلك.

فتجد أن المستبد يوحي للشعب بأن الشعوب الأخرى تستهدفه وتريد الشرّ فيه، وتضمر له الحقد والوقيعة، وتبحث عن عثراته وتحسده على "النعمة" و"الأمن" و"الأمان".

يجوز للشعب أن يدفع ثمن جرائم مجموعة منحرفة تمسك القرار وتدير البلد بشكل تعسفي ظالم فأخطاؤهم ليست أخطاء الناس وجرائمهم ليست جرائم الناس وقراراتهم ليست قرار الناس.

عبد الله العودة

ثم يقدّم على أن أي نقد طبيعي للطغمة الفاسدة في بلد المستبد وكأنه هجوم ضد الناس وضد الشعب وضد قيمه، لكي يستفزّ الشعب على هجوم معاكس، وتبدأ حملات التحريض والتخوين التي تختلف فيها قلوب الشعب، وتشتم بعضها بعضاً بسبب أن المستبد يتوجس خيفة من نقد استبداده من جهة، ويتوجس خيفة من الجسور التي تربط الشعوب بعضها ببعض؛ من جهة أخرى.

فتلك الجسور قد تحمل طموحات الشعوب، وقد تحمل الحرية المعدية التي تنتقل من مكان لآخر ومن منطقة لأخرى.

لذلك نعود للقول بأن مآزق المجموعة الفاسدة، والطغمة الصغيرة التي تدير مقدرات البلد بشكل استبدادي لا يمكن أبداً أن تمثّل الناس والشعب وأعمالهم وقيمهم.

ولا يجوز للشعب أن يدفع ثمن جرائم مجموعة منحرفة تمسك القرار وتدير البلد بشكل تعسفي ظالم، فأخطاؤهم ليست أخطاء الناس، وجرائمهم ليست جرائم الناس، وقراراتهم ليست قرار الناس والشعب، ببساطة لأنهم سفراء الطغمة الفاسدة ووزراؤها، ومسؤولوها، وحينما يكون للناس القرار وللشعب الاختيار، فحينها نستطيع القول براحة ضمير بأنهم "سفراؤنا" و"وزراؤنا" و"مسؤولونا".

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً