تابعنا
إن أحد أهم مبادئ الدبلوماسية التي ترسخت عبر قرون هي الظرفية السياسية ودورها الحاسم في تحقيق أهداف اللاعبين السياسيين، بمعنى أن السياسية التي قد تكون ممكنة في ظرف معين قد تصبح مستحيلة إذا تغير هذا الظرف، والعكس صحيح.

واليوم ومع قدوم إدارة الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض بات الحديث يتردد على نطاق واسع حول إمكانية عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي السابق الذي توصلت إليه إدارة الرئيس أوباما عام 2015، أم يُبحث عن طرق أخرى للتوصل إلى اتفاق جديد، خصوصاً بعد أن انسحبت منه الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب بمايو/أيار 2018. وكانت إيران قد وقعت على اتفاق حول برنامجها النووي مع دول مجموعة 5+1 (وهي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا) في يوليو/تموز 2015.

وقد جاء الاتفاق حصيلة جولات ماراثونية من المفاوضات التي عقدت على مدار 18 شهراً في جنيف وفيينا ونيويورك حتى أعلن عنه بمدينة لوزان نهاية المطاف. وقد بُني جوهر الاتفاق على منع إيران من الوصول إلى اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، وهي النسبة المطلوبة لتصنيع القنبلة النووية، مقابل رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عنها. وقد وضع الاتفاق في إطار زمني يصل إلى 15 عاماً منذ توقيعه وهو الأمر الذي أثار العديد من الانتقادات، واعتبر حينها إحدى مثالب الاتفاق، فرأى المنتقدون أن الاتفاق جاء لتأجيل حصول إيران على السلاح النووي لا حرمانها منه بالمطلق، فضلا عن عدم تعرُّض الاتفاق لبرنامج إيران للصواريخ الباليستية أو لسياساتها الإقليمية المزعزة للاستقرار حسب رأيهم.

وزراء خارجية فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي وإيران والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بالإضافة إلى الدبلوماسيين الصينيين والروس يعلنون إطار عمل لاتفاق شامل حول البرنامج النووي الإيراني (لوزان ، 2 أبريل 2015). (Others)

ويرى خبراء ومراقبون للملف الإيراني أنه ووفق مبدأ الظرفية السياسية فإن العودة إلى الاتفاق الذي جرى التوصل إليه عام 2015 تعتبر في أحسن الأول صعبة للغاية. ولمعرفة صعوبة العودة هذه لا بد من النظر إلى الظرفية التي تحقق خلال الاتفاق. تطلَّب التوصل إلى الاتفاق تحقُّق بعض الشروط المسبقة حولإجراءات بناء الثقة، والمصداقية، وتهيؤ المناخ، والعمل المشترك.

إجراءات بناء الثقة

تمثل أول إجراءات بناء الثقة بالخطابات التي اعتاد الرئيس السابق باراك أوباما توجيهها إلى الشعب الإيراني مطلع كل سنة إيرانية منذ 2012. لعبت هذه الخطابات دور تمارين الإحماء فهدفت إلى كسر الجليد بتصورات الشعبين الأمريكي والإيراني بعضهما عن البعض.

ففي عيد النيروز عام 2012 قال الرئيس أوباما مخاطباً الإيرانيين إنه وعلى "مدى آلاف السنين، كان هذا وقتاً للتجمع مع العائلة والأصدقاء والترحيب بربيع جديد وعام جديد. في الأسبوع الماضي ساعدت زوجتي ميشيل بالاحتفال بعيد النوروز هنا بالبيت الأبيض. كان احتفالًا بالثقافات النابضة بالحياة والطعام والموسيقى والصداقة للعديد من مجتمعات الشتات لدينا التي تقدم مساهمات غير عادية كل يوم هنا في الولايات المتحدة. حتى إننا أنشأنا هافت سين (أو السينات السبع، وهي سفرة تقليدية تُحضَّر احتفالاً بعيد النوروز) الخاصة بنا، والتي تمثل آمالنا للعام الجديد".

تابع أوباما تعزيز إجراءات الثقة بالاتصال الذي أجراه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني بسبتمبر/أيلول 2013، وهو الاتصال المباشر الأول من نوعه على هذا المستوى بين البلدين منذ الثورة الإسلامية وسقوط الشاه 1979. وأكد فيه أوباما أن إيران والولايات المتحدة تمتلكان أساس إنجاز حل للملف النووي، في حين أكد روحاني انفتاح بلاده على المجتمع الدولي وأهمية ذلك في التوصل إلى اتفاق.

الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما (Others)

من جانبه نعت الرئيس الإيراني حسن روحاني الأمة الأمريكية بأنها "عظيمة" بخلاف الخطاب الذي طالما ساد داخل إيران خصوصاً من قبل المتشددين الذين دأبوا على نعت الولايات المتحدة بـ"الشيطان الأكبر". وتكللت إجراءات بناء الثقة هذه بالمفاوضات المباشرة بين الطرفين، إذ جمعت هذه المفاوضات وجهاً إلى وجه كلاً من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الإيراني جواد ظريف، وهو ما يعد تجاوزاً للأعراف السائدة بين البلدين المتمثلة بالتعاطي من خلال طرف ثالث كالوسيط السويسري.

مصداقية الرئيس

في السياق ذاته كان الرئيس أوباما يحظى بمصداقية على المستوى الدولي. يروي أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي الحالي الذي شغل سابقاً منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون التعليمية والثقافية، على سبيل المثال، أن مصداقية الرئيس أوباما كانت الورقة الرابحة لإقناع المجتمع الدولي بخلاف ما كانت تروج له الدعاية الروسية من عدم ضلوع روسيا في الأزمة الأوكرانية. فقد كان بلينكن مع فريقه في البيت الأبيض يجهد لإثبات أن القوات الروسية كانت بالفعل في منطقة دونباس شرق روسيا، وأن موسكو تسلح المجموعات الانفصالية هناك وتديرها، وأن هؤلاء الانفصاليين هم الذين استخدموا قاذفة صواريخ روسية أدت إلى إسقاط طائرة الركاب الماليزية. ويؤكد بلنكين أنه لولا احترام قادة العالم لكلمة الرئيس أوباما لما استطاعوا مجابهة الدعاية الروسية وإقناع العالم بحقيقة ما يجري.

عزز هذه المصداقية النهج التشاركي الذي كانت تتبعه إدارة أوباما. فالتعددية السياسية والتنسيق مع الحلفاء والخصوم على حد سواء جعل الإدارة الأمريكية أقدر على التوصل إلى حل بعض المشكلات العالمية كان على رأسها الاحتباس الحراري، فجرى التوصل إلى اتفاقية باريس للمناخ عام 2015 والاتفاق النووي الإيراني 2015. أما على المستوى الثنائي فقد استطاع الرئيس أوباما أن يضع حدّاً للقطيعة مع الجارة كوبا، ومن خلال رحلته المباشرة إلى هافانا ولقائه الرئيس الكوبي راؤول كاسترو في مارس/آذار 2016 فتح صفحة جديدة بين البلدين اللذين كانا قاب قوسين أو أدنى من تسبيب حرب عالمية نووية في ستينيات القرن الماضي إبان أزمة الصواريخ الكوبية.

وبوقت سابق وفيما يخص الملف النووي أقنعت دبلوماسية متعدد الأطراف هذه لأوباما المجتمع الدولي بالأخص روسيا والصين بالموافقة على فرض عقوبات اقتصادية على إيران عبر مشروع قرار من مجلس الأمن الدولي. وكانت تلك أولى العقوبات على إيران من خلال قرار أممي، فاستهدفت العقوبات القطاعات المالية والنفطية لإيران بشكل غير مسبوق. إن قدرة إدارة أوباما على إقناع الصين وروسيا بعدم استخدام حق الفيتو ضد هذه القرار كما هو معتاد في قرارات سابقة عُدَّ رسالة واضحة إلى إيران بجدية التعاطي مع ملفها النووي.

الشرط الإقليمي والدولي

هذه الشروط المسبقة كافة جاءت ضمن سياق إقليمي ودولي مُواتٍ للدفع نحو التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المنخرطة. على الصعيد الدولي كانت الولايات المتحدة منشغلة بتطبيق استراتيجيتها الكبرى نحو التوجه شرقاً التي سميت Asia Pivot، وهدفت أساساً إلى التصدي لصعود الصين. قامت الفكرة على أساس ضرورة تحلُّل واشنطن من مشكلاتها بالشرق الأوسط لتتفرغ بشكل أكبر للوجود شرق آسيا، ومن هنا جاءت فكرة تخفيف القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان حيث انسحب القوات الأمريكية من العراق عام 2011، ولم تبقِ إلا على أعداد قليلة من القوات لحماية المنشآت الأمريكية بالمنطقة، والتدريب.

على الصعيد الإيراني كانت العقوبات الاقتصادية الأممية مؤلمة، فتراجع تصدير النفط وتوقفت التعاملات المالية مع إيران، في حين عانى حلفاء إيران وعلى رأسهم بشار الأسد من خطر السقوط جراء الحرب الأهلية المشتعلة بالبلاد وقتها، وأخذت غالبية المناطق الغربية من العراق تخرج من يد الحكومة العراقية المدعومة إيرانياً. كما ساهم خروج تيار الرئيس أحمدي نجاد المتشدد من السلطة ومجيء إدارة أكثر انفتاحاً على الغرب ومحسوبة على التيار البراغماتي داخل إيران في الدفع نحو إيجاد حل مع الغرب إذ كانت قناعة هذا الفريق أن حل مشكلات إيران يكمن بالتحسن الاقتصادي وهذا لا يمكن تحقيقه دون اتفاق مع الولايات المتحدة وتجاوز سياسة العقوبات الاقتصادية.

ترمب ولعبة خلط الأوراق

لا شك أن تغيراً كبيراً طرأ على الظرفية السياسية خصوصاً منذ مجيء الرئيس السابق دونالد ترمب. والشروط المسبقة التي كانت جوهر التوصل إلى الاتفاق النووي تكاد تكون قد انتفت تماماً. فنظام تعزيز مناخات الثقة قد انهار بشكل كامل مع الرئيس السابق دونالد ترمب الذي جعل من انتقاد الملف النووي مادة دسمة بحملته الانتخابية إبان ترشحه للبيت الأبيض عام 2016، ووعد أنصاره بأنه في حال فوزه سيعمل على تمزيق الاتفاق، وهو ما جرى بالفعل عندما انسحبت إدارته من الاتفاق النووي عام 2018.

تزعم إسرائيل أن فخري زاده قاد البرنامج النووي الإيراني العسكري مطلع الألفية (وكالة تسنيم)

وقد تهاوت مصداقية الولايات المتحدة إلى معدلات غير مسبوقة بفعل سياسات إدارة الرئيس ترمب. فقد اعتمد على سياسة أحادية الجانب ترنو إلى الانعزالية السياسية والحمائية الاقتصادية. فهاجم حلفاءه الأوروبيين، وتنصل من قيم الولايات المتحدة حول حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، وانسحب من الاتفاقيات الاقتصادية ومن اتفاقية باريس للمناخ، وهاجم منظمة الصحة العالمية وجمد مساهمة الولايات المتحدة فيها بوقت هي في أمسِّ الحاجة إلى كل دعم بفعل اكتساح جائحة كورونا العالم أجمع.

فيما يخص المسألة الإيرانية عملت إدارة ترمب نقيض إجراءات بناء الثقة. فبالإضافة إلى توجهاته الدولية المزعزعة للاستقرار اغتالت إدارته قاسم سليماني أحد أبرز القيادات العسكرية الإيرانية، بغارة على سيارته قرب مطار بغداد الدولي مطلع 2020. وقبل أن تنقضي ولايته اغتيل عراب المشروع النووي الإيراني محسن فخري زادة. فضلاً عن إعادة فرض العقوبات الاقتصادية بشكل أشد، وهي العقوبات التي استهدفت قطاع الطاقة بشكل أساسي، إذ وعد ترمب أن يجعل صادرات إيران من النفط تساوي صفراً. غير أن الجديد في عقوبات إدارة ترمب على إيران أنها شملت أي هيئة أو كيان يتعامل مع إيران، ما وضع الأوروبيين بمأزق حقيقي وجعلهم ينسحبون من السوق الإيرانية ويرفضون التعاطي معها.

هذا فضلاً عن العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس ترمب على أذرع إيران الإقليمية كحزب الله، وبعض قادة المليشيات العراقية المدعومة إيرانياً، وأخيراً تصنيف جماعة الحوثي منظمة إرهابية. بطبيعة الحال علينا أن لا ننسى أيضاً تصنيف الحرس الثوري وهو الذراع الضاربة للنظام الإيراني، منظمةً إرهابية أيضاً.

ظروف العودة للاتفاق

خصوم الاتفاق يرون أن إيران ساهمت بدورها في تآكل الثقة. فحسب رأي هذا الفريق فإن "الاتفاق لم يروض سياسات إيران، ولم يمكن المعتدلين بطهران من تنفيذ أجندتهم، أو يمهد الطريق لعلاقة حسنة تمهد لمزيد من التعاون بملفات أخرى". كما استمرت إيران بتطوير ترسانتها من الصواريخ البالستية ومواصلة دعمها للعديد من المليشيات في المنطقة و"ظل خامنئي المتحكم الأوحد بالسياسة الإيرانية، وتزايد نفوذ الحرس الثوري صاحب الأجندة المتشددة. كما خدعت طهران الوكالة الدولية للطاقة الذرية فيما يتعلق بالأبعاد العسكرية لبرنامجها النووي على الرغم من التزامها لحسن نية، وواصلت البحث وتطوير أجهزة طرد مركزي متطورة يمكن أن تقصر بشكل كبير من وقت امتلاكها للسلاح النووي".

الرئيس جو بايدن في زيارة للبنتاغون (Reuters)

إن العودة إلى الاتفاق السابق تبدو شبه مستحيلة ضمن رؤية هذا الفريق لعدم توافر الظرفية السياسية التي أفرزت الاتفاق بالمقام الأول، فإيران استطاعت إلى حد ما أن تبني لنفسها اقتصاداً "مقاوماً" يتجاوز العقوبات، وحلفاؤها في المنطقة بصنعاء وبغداد ودمشق وبيروت يمسكون بزمام السلطة، في الوقت الذي يشهد فيه التيار الإصلاحي والبراغماتي داخل إيران تراجعاً لصالح التيار المتشدد خصوصاً بعد عمليات الاغتيالات التي أصابت قيادات إيرانية وازنة.

ومن هنا فإن العديد من الخبراء يرون الحل في الذهاب نحو ترتيبات لاتفاقات جديدة أو مكملة. وهنا تبرز المعضلة المتعلقة بالظرفية السياسية. ومن أجل وصول إدارة الرئيس بايدن إلى هذه الترتيبات تجب عليه إعادة ترميم مصداقية الولايات المتحدة على المستوى الدولي، وفتح قنوات التواصل مع حلفائها التقليديين وعلى رأسهم أوروبا، والتعاطي مع الملف الإيراني بطريقة أكثر شمولية ليشمل برنامج إيران للصواريخ البالستية، وسياسة دعم إيران للمليشيات في دول الجوار. من شأن هذه النظرة الشاملة أن تطمئن حلفاء واشنطن الإقليميين الذين جرى إقصائهم عن محادثات الاتفاق السابق على رأسهم دول الخليج العربي. هذا فضلاً عن ملف حقوق الإنسان داخل إيران. إن العديد من الخبراء يرون أن التعاطي مع الملف الإيراني ضمن خطة أكثر شمولية، ووضعها بسياقها الإقليمي والدولي بعيداً عن الاختزالية السابقة حول البرنامج النووي فقط من شأنه أن يمهد الطريق إلى نزع فتيل التوتر من المنطقة، وتجنيبها سباقاً للتسلح النووي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً