تابعنا
في هذه الأيام تمر الذكرى التاسعة لاندلاع موجة الثورات العربية التي بدأت في تونس ديسمبر 2010 لتمتدّ بعدها وتضرب العديد من دول المنطقة وتسفر عن الإطاحة بعدد من الرؤساء "المزمنين"، وتغيير بعض النظم راسخة الاستبداد، وسقوط دول أخرى في دوامة الصراع الأهلي.

وكذلك تأتي في هذه الأيام أيضاً الذكرى الأولى لبدء الثورة السودانية ضدّ حكم البشير ونظام الإنقاذ، التي دشنت ما بات يُسَمَّى بالموجة الثانية للربيع العربي، وهي الموجة التي طالت أربعاً من الدول العربية حتى الآن، تحديداً: السودان والجزائر والعراق ولبنان.

وعلى الرغم من تغيُّر البيئة السياسية المحلية والدولية بشكل جذري ما بين الموجتين، فإن أوجه الشبه بينهما لا تُخطأ، فهذه الموجة الثانية تمثلت أيضاً في حراك شعبي حاشد وممتد، أسفر عن توليد ضغوط وانشقاقات داخل النظام السياسي، ودفعت بالقوات المسلحة للتدخل والإطاحة برئيس الدولة مثل الحالة السودانية والجزائرية، أو على الأقلّ دفعت رئيس الحكومة ورأس السلطة التنفيذية إلى الاستقالة كما حدث في لبنان والعراق.

وقد واجهت حركات الإسلام السياسي خلال الموجة الأولى للربيع العربي تحديات جوهرية، فبعد فترة وجيزة من الصعود السياسي، تكاتف عدد من الفواعل المحليين والإقليميين والدوليين للتصدي لهذه الحركات والإطاحة بها من السلطة، ومن المجال السياسي الرسمي ذاته، وبدأت حملة واسعة من القمع والإقصاء تركت هذه الحركات في حالة عميقة من فقدان الاتزان.

وبعد ثماني سنوات من اندلاع الموجة الأولى، جاءت الموجة الثانية لتعمّق أزمة حركات الإسلام السياسي والأحزاب الإسلامية، فخلال هذه الموجة كان الحراك الشعبي في ثلاث حالات من الأربع المذكورة سابقاً موجَّهاً ضد نظم تحكمها أو تدعمها حركات الإسلام السياسي، وهي حالات السودان والعراق ولبنان.

كما أن المشهد الإسلامي في الحالات الأربع مفتَّت بشدة، ففي الحالة السودانية، على سبيل المثال، كانت الأحزاب الإسلامية وحركات الإسلام السياسي منقسمة على جانبَي المشهد، ففي حين كان حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية يمثّلان السلطة، كان الحراك الشعبي المناهض لها يحوي عدداً من الحركات والأحزاب والرموز الإسلامية أيضاً مثل حزب "الإصلاح الآن" برئاسة الدكتور غازي صلاح الدين وجماعة الإخوان المسلمين في السودان. كذلك فإن الحركة الإسلامية الجزائرية تمثلها عدد من الأحزاب والحركات أهمها حركة مجتمع السلم، وهذه الأحزاب فضلاً عن أن انقسامها يضعف قدرتها على التأثير والفعل، فإنها تقف على مسافات متباينة من النظام الحاكم، وتنخرط بشكل جزئي وغير رسمي في الحراك.

يزداد تعقُّد هذا المشهد في الحالتين اللبنانية والعراقية، حيث تنقسم حركات الإسلام السياسي بين الشيعية والسنية، وبشكل عامّ تعتبر الأحزاب والحركات الإسلامية الشيعية في كلتا الحالتين مشاركاً وداعماً للنظم التي يثور الحراك الشعبي ضدّ فسادها وعدم كفاءتها، رغم مشاركة التيار الصدري وهو التيار الشيعي العراقي الأبرز حاليّاً في الحراك، في حين تقف الأحزاب والحركات الإسلامية السنية على الأغلب في المعارضة، لكنها تعاني الضعف التنظيمي وغياب الرؤية السياسية والانقسام أيضاً.

هذا المشهد المرتبك والمتراجع عموماً لحركات وأحزاب الإسلام السياسي يعيد إثارة معضلة الإصلاح والتجديد أمام هذه الحركات، التي ظلت طوال الفترة الماضية يتجاذبها تياران، الأول يركن إلى التبريرويتحاشى اتخاذ خطوات جادة في هذا المسار، ربما خوفاً من تبعات عملية المراجعة والتجديد على تماسك هذه التنظيمات، ويرى أن التحديات التي تواجهها حركات الإسلام السياسي هي بالأساس تهديدات ومؤامرات خارجية، وأن الأمر لا يتطلب مراجعات على مستوى الآيديولوجيات والرؤى والاستراتيجيات بقدر ما هو تقييم على مستوى التكتيكات والقرارات.

والتيار الثاني يحمِّل الحركات والأحزاب الإسلامية السياسية حصراً أسباب تعثُّر تجربة التحول الديمقراطي القصيرة للربيع العربي، ويرى أن أوان المراجعة والتجديد قد فات، وأن تجربة الإسلام السياسي قد وصلت إلى نهايتها، ومِن ثَم فإن اللا فعل أيضاً هو النتيجة.

أما الأجندة "الإصلاحية" التي أعلنها بعض هذه الأحزاب والحركات بعد عمليات تقييم ومراجعة مثل حركة النهضة في تونس، أو ما يُعرَف بتيار التجديد في الحالة الإخوانية المصرية، أو الوثيقة السياسية للحركة الإسلامية في الأردن، أو الوثيقة الجديدة لحماس، فإنها تتّسم ببعض سمات عامَّة، أولها أنها ليست شاملة أو جذرية في معظمها، بل هي سياسية واستراتيجية بالأساس، ولم تتعرض للبعد الفكري والآيديولوجي، كما لم تتناول المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية.

كذلك فإن هذه الأجندات كان لها منحى متشابه، هو محاولة فض الاشتباك بين الدعوي والسياسي، سواء بإعلان تحول هذه الحركات إلى أحزاب سياسية نمطية، والتخلي عن سمات الحركات الدعوية، مثل حركة النهضة، أو بالعكس، عن طريق الإعلان عن التخلي التامّ عن الصيغة الحزبية في المشاركة السياسية، والتحول إلى استراتيجية جماعات الضغط مثلما أعلن تيار التجديد بجماعة الإخوان المسلمين في مصر.

كذلك سعت هذه المبادرات الإصلاحية إلى محاولة فضّ الاشتباك بين الهوية الوطنية والمشروع الإسلامي الأممي، بتأكيد الهوية الوطنية "الحصرية"، وتراجع تأكيد البعد الأممي، والإعلان في بعض الأحيان عن فك الارتباط بالكيان التنسيقي المسمى بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. كما توجد سمة مشتركة أخرى هي تبنِّي فكرة التخصصية والاحترافية، والالتفات إلى الشق السياساتي والبراغماتي عوضا عن الهوياتي والآيديولوجي في البرامج السياسية المعلنة.

إن الهزات المتتابعة والتحديات المتشعبة التي تتعرض لها التجربة الإسلامية السياسية ليس فقط في الدول العربية، بل حتى في الإقليم ككل، إذا أخذنا في الاعتبار الجمهورية الإسلامية في إيران، أو التجربة الإسلامية في تركيا، لهي دليل على حاجة جدية إلى التجديد المنهجي والمراجعات الشاملة، وأن الجهود القائمة إما غير كافية وإما غير فعَّالة، وعلى الرغم من الخبرات المتراكمة والمتباينة لدى حركات الإسلام السياسي، ووفرة مواردها البشرية ورأسمالها الاجتماعي، علاوة على حالة الفراغ والفوضى التي تضرب الإقليم مع عجز المشروعات المنافسة عن تقديم بدائل فعالة، فإن هذه الحركات ما زالت تفتقر إلى المبادرة -وربما الشجاعة-اللازمة لأخذ زمام المبادرة واستغلال نقاط قوتها والفرص المتاحة لها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبِّر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً