تابعنا
"الحرب سجال، يومٌ لك ويومٌ عليك"، هكذا كان يصيح العربي منتشياً بالنصر أو مكتوياً بالهزيمة، وهكذا يوقن أن الحرب مستمرة في الاشتغال، وبمختلف الصيغ، كما الآن في زمن الهدر والبؤس، حيث لا صوت يعلو على هدير المدافع والأحزمة الناسفة والاغتيالات والانفجارات.

ففي كل بقعة من العالمين العربي والإسلامي، لا بد من وجود بؤرة توتر واختلال، يتسرب منها اللايقين واللاأمن، ولا بد من طرف أجنبي يدس مصالحه ورهاناته في البؤرة ذاتها، ليتحكم في كل التفاصيل والخيرات والثروات. 

يقول مثل إنجليزي عميق بأن وضع حصاة في حذاء الخصم، كاف جداً لإتعابه والتخلص منه أثناء المشي، إذ سيبقى مشغولاً فقط بالألم الذي تُحدثه الحصاة داخل الجورب، وذلكم بالضبط ما فعله الاستعمار، وما تفعله الآن القوى الدولية الكبرى، للتحكم في مصائر الدول والشعوب. 

فما من منطقة عربية وإسلامية، إلا وزرعت فيها مشكلة ما تنتسب سلالياً إلى السياقات التاريخية أو الاجتماعية أو الدينية أو الجيواستراتيجية، وتشكل تهديداً دائماً للصرح، وتفيد حتماً في ليّ الذراع وتكميم الفم. فالمهم أن تكون هناك حصاة مؤلمة تعرقل المسير، وترهن المصير بيد القوى الكبرى ذاتها. 

ذلكم ما يحدث في الجنوب المغربي، وفي العمق الليبي وفي الطائفية اللبنانية والعراقية، وهو ما يتواصل في سوريا والأردن ومصر وكثير من الدول العربية والإسلامية. 

ففي كل بلد عربي هناك لغم مزروع بإتقان، يفيد في التطويع وإرباك المصير. فلا بد من نزاعات وخلافات تُعمر طويلاً، وتمس في العمق الوحدة الترابية للأوطان، ما ينتج في الغالب وضعية مأزقية تتوزع على "اللا حرب" و"اللا سلم" أيضاً.

بل إن النزاع ذاته يصير عائقاً أمام احتمال الاتحاد القومي، فمشاريع الوحدة العربية والاتحاد الإسلامي واتحاد المغرب العربي والخليج العربي، كلها خيارات وحدوية هشة تعرضت للقتل الرمزي بسبب الخلافات الثنائية والمشاكل الحدودية والعرقية والإيديودينية. وهو ما فوّت على الشعوب العربية والإسلامية فرصاً قوية للاندماج والتكامل لمواجهة عصر العولمة الكاسح.

إن التعكير المستمر للأجواء بين العواصم العربية والإسلامية، بل وتسميم العلاقات ذاتها، لا يتصل فقط بصيغ التدبير الداخلي، وإنما توجد شروط إنتاجه في الحروب الجيواستراتيجية الكبرى لإعادة تقسيم العالم وبناء أقطابه، فهناك دائماً من يجني ثمار هذا التعكير و يفيد منه في شرعنة وتكريس سيطرته.

فالعلاقات المغربية الجزائرية مثلاً، لا تصنعها النوايا الطيبة ولا تبادل الإشارات السياسية الذكية، بل إنها تظل محكومة، وحتى إشعار آخر، بمصالح القوى الدولية الكبرى التي لا تريد لنزاع الصحراء أن ينتهي، حتى تواصل تحكمها في صفقات السلاح وإعلان حضورها الرمزي في شمال إفريقيا والصحراء الكبرى. 

خصوصاً وأن تدبير ملف الصحراء المغربية لا يتم إقليمياً في إطار اتحاد المغرب العربي الموقوف التنفيذ، أو حتى قومياً في إطار الجامعة العربية التي تجيد تدبيج بيانات الاستنكار فقط، فالتدبير يجري في ردهات الأمم المتحدة وبتأثير مباشر من الخمسة الكبار (الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، روسيا، بريطانيا، فرنسا)، وبالطبع فكل طرف يفكر في نزاع الصحراء من داخل رهان المصالح وشرط التوازنات، وتحديداً في زمن الحرب على الإرهاب والتداعيات السوسيواقتصادية لجائحة كورونا. 

يلوح عالم اليوم كحقول للصراع والتنافس، من أجل تأمين أكبر قدر من المصالح والامتيازات، وعليه فإن المواقف تُبنى وتُصَاغ وفقاً لمدخلات ومخرجات هذا الصراع، فالمصلحة هي التي تحدد الاختيار وتؤسس للموقف، ومنه نفهم جيداً كيف تفاوتت مواقف الكبار بشأن نزاع الصحراء، فالولايات المتحدة الأمريكية تعي جيداً أن حالة التوتر واللا استقرار في منطقة المغرب العربي تؤجل مشروعها الإدماجي لشمال إفريقيا والشرق الأوسط، كما خطر الإرهاب الذي وصل المنطقة معلناً عن تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي، ومدبراً لكثير من التفجيرات، يستوجب من قائدة الحرب على الإرهاب الانخراط في حرب استباقية عبر تجفيف المنابع والحيلولة دون جعل الصحراء موئلاً للخلايا النائمة التي تهدد المصالح الأمريكية. 

فرهان المصالح يقتضي من البيت الأبيض العمل على إنهاء هذا النزاع بأقل الخسائر الممكنة وفق قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، ولعل استضافة مانهاست لأولى المفاوضات حول صيغة الحكم الذاتي الموسع الذي تقدم به المغرب، تؤكد بقوة هذه الفرضية، فالولايات المتحدة الأمريكية ليس في مصلحتها ألا تجذر موقعها في فض النزاعات في أي بؤرة من بؤر التوتر على المستوى العالمي، وتحديداً في المنطقة المغاربية التي تستقطب اهتمامات المنافسين الكبار الآخرين. 

لهذا نجد البيت الأبيض ومعه فئات واسعة من أعضاء الكونغرس ينتصر لحل سياسي متفق بشأنه للخروج من نفق "اللا حل"، وهذه نقطة إيجابية في مسار هذا النزاع، يتوجب على المغرب أن يلتقطها جيداً ويشتغل عليها في أفق إعمال الحكم الذاتي بأقاليمه الجنوبية. 

أما بالنسبة للتنين الصيني، فسعيه الحثيث لملء الفراغ الذي تركه انتفاء الاتحاد السوفياتي، يجعله يتريث في كشف كل أوراقه بخصوص نزاع الصحراء، مؤكداً في الآن ذاته على ارتكانه إلى الشرعية الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ودون أن يضر بمصالح المغرب الذي يعتبره سوقاً اقتصادية بامتياز، وتحديداً في ظل إقدام المغرب على اختيار اللقاح الصيني ضداً للعروض الدولية الأخرى. 

وعندما ننتقل إلى روسيا التي لم تستطع استعادة دور التوازن والمجابهة التي كان يلعبها الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، فإن موقفها لا يختلف كثيراً عن الطرح الأمريكي، وإن كان الدب الروسي يحاول من حين لآخر أن يقلب الطاولة في محاولة استرجاع يائسة للزمن الضائع. 

أما بالنسبة لبريطانيا، فيمكن القول بأن المنطقة المغاربية لا تغريها كثيراً، لأنها تبدو منطقة ذات حضور فرنسي، ومن الطبيعي ألا تنافس غريمتها في هذه المنطقة، وإلا ردت لها فرنسا الصاع صاعين و زاحمتها في مناطق أخرى بوسط إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، هذا بالإضافة إلى كون النزاع حول الصحراء يشكل مؤشراً لقياس مآل صخرة جبل طارق، التي من الممكن أن يعلو بصددها النقاش مباشرة بعد انتهاء المغرب من هذا المشكل وتغييره لواجهة الاشتغال صوب المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية والجزر الجعفرية، ولهذا تجنح بريطانيا إلى الحياد البارد والإلحاح على مطلبية الحل السياسي. 

فرنسا ظلت دوما إلى جانب المغرب في تدبير النزاع حول الصحراء، فالعلاقات التاريخية بين البلدين تبرر هذا التضامن، كما أن المصالح الاقتصادية تجذر الدعم الفرنسي للمغرب في قضية وحدته الترابية، مثلما يتوجب الانتباه أيضاً إلى الدور الذي تود فرنسا لعبه على المستوى المتوسطي، فالمنطقة المغاربية والمتوسطية عموماً هي محور رهانات استراتيجية بين فرنسا وأمريكا، إلا أن هذه الرهانات تصير بلا معنى مع واقعة "اللا استقرار" و "اللا حرب" و"اللا سلم" في الآن ذاته. 

إن هذه المصالح والتحديات الدولية، والتي تتوزع في خططها الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الخمسة الكبار مضافاً إليهم إسبانيا والجزائر، تبدو في غالبيتها، سائرة في اتجاه تأبيد النزاع لا حله، فما يهم في النهاية هو أن تكون الحصاة مؤلمة ومانعة للتقدم بتؤدة باتجاه المستقبل. وعليه فالمخرج الوحيد للعالم العربي، للتخلص من كل حصاة تمنعه من التمشي الآمن، هو المصالحة الداخلية والانتهاء من كل الأعطاب السياسية والتنموية، لخلق توازنات ومصالح مربحة للجميع، مع القوى الكبرى، وهذا لا يكون إلا بالانتصار على "الأنا" والاتجاه نحو "النحن" العربية الإسلامية، عبر تصفية كل النزاعات العربية العربية، حينها لن تنفع ألف حصاة في عرقلة المسير النهضوي، الذي ينتصر للوطن والإنسان.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRT عربي .  

TRT عربي
الأكثر تداولاً