حصدت شركات الطاقة أربحاحاً هائلة منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا بسبب أرتفاع أسعار النفط والغاز (Others)
تابعنا

شهد مؤتمر قمة المناخ في شرم الشيخ، مفارقات مُضحِكة-مُبكِية. فقد حضره نحو 600 مشارك يمثّلون صناعة الوقود الأحفوري، وهي المتسبّب الأول في الاحتباس الحراري. وعقد برعاية شركة كوكاكولا، وهي المتسبب الأكبر في التلوث البلاستيكي. وتم تكليف شركة "هيل آند نولتون" مهامّ الإعلام والعلاقات العامة، وهي المساهم الأهمّ في التغطية على تجاوزات شركات النفط وتلميع صورتها.

أبلغ تلخيص لهذه المفارقات جاء على لسان الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بقوله: "صناعة الوقود الأحفوري لا تزال منذ عقود تستثمر في تشويه العلوم، وتنظيم حملات العلاقات العامة لسرد الأكاذيب بهدف التنصل من مسؤولياتهم عن تغير المناخ"، مشبّهاً تلك المقاربة بـ"التكتيكات الفاضحة" لشركات التبغ.

المفارقة المبكية هي تلك المتعلقة بمسألة "الأضرار والخسائر"، والتي تهدّد بإفشال القمة رغم تراجع أمريكا باللحظة الأخيرة بإعلان موافقتها على إدراجها كبند في جدول الأعمال. وجاءت الموافقة استجابة لضغوط الدول الفقيرة ومطالبتها الدول الصناعية بتنفيذ التزاماتها بموجب اتفاقية باريس في العام 2015، بدفع 100 مليار دولار سنوياً تُخصَّص للتكيف مع تداعيات التغيُّر المناخي.

المفارقة كشفها أيضاً السيد غوتيريش بقوله إن "أرباح شركات النفط الكبرى بلغت نحو 100 مليار في الربع الأول فقط من العام الحالي" معتبراً أنه "من غير الأخلاقي تحقيق هذه الأرباح المفرطة على حساب الشعوب الفقيرة وبكلفة هائلة على المناخ". وما تَحفَّظ عن قوله أمين عامّ الأمم المتحدة لتكتمل حبكة المفارقة، أعلنه رئيس وزراء أنتيغوا وبربوا بقوله: "هم يربحون، والكوكب يحترق"، مطالباً بتخصيص هذه الأرباح لإنشاء صندوق "الخسائر والأضرار".

"أرباح شركات النفط الكبرى بلغت نحو 100 مليار في الربع الأول فقط من العام الحالي" (Others)

وبمعزل عن المفارقات المضحكة أو المبكية، فإن الوقود الأحفوري لعب دوراً حاسماً في نهضة البشرية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا الدور مرشح للاستمرار خلال العقود المقبلة إلى جانب الطاقة المتجددة.

ولكن المشكلة كانت ولا تزال في دور شركات النفط الكبرى التي يمكن اختصارها بجانبين: الأول مسؤوليتها عن الاحتباس الحراري وضرورة تَحمُّلها لجزء من "الخسائر والأضرار"، والثاني "السلوك الشائن" في التنصل من مسؤولياتها.

خصخصة الأرباح وتأميم التكاليف

بالنسبة إلى الجانب الأول، يشار إلى أن شركات الوقود الأحفوري تساهم بنحو 62 في المئة من جميع انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وأدّى الوقود الذي أنتجته أكبر 20 شركة خلال الفترة 1965-2017 إلى إطلاق 480 مليار طن من ثاني أوكسيد الكربون والميثان. وأكبر الشركات المساهمة في هذه الانبعاثات هي أرامكو، وشيفرون، وغازبروم، وإكسون موبيل، وبريتش بتروليوم، وشل.

تنعمت شركات النفط والغاز والفحم على مدى قرن كامل بوضع فريد تَمثَّل بتوفر الحماية السياسية والعسكرية من الدول الكبرى لأنشطة الحفر والتنقيب ولطرق الإمدادات.

ووصلت هذه الحماية في بعض الحالات إلى تغيير أنظمة الحكم غير المتعاونة مع الشركات أو التي تطالب بشروط عادلة، كما تَمثَّل هذا الوضع الفريد بمعاملة تفضيلية في الدول الصناعية محصَّنة بقوانين وقرارات حكومية، شملت تخصيص الأراضي واستثناءات من القوانين البيئية والمعاهدات الدولية المتعلقة بالمحيطات والجروف القارية وأعماق البحار، إضافة إلى معاملة تفضيلية على صعيد الرسوم والضرائب، ما سمح لها بمراكمة ثروات هائلة على حساب دافعي الضرائب في الدول الغربية وعلى حساب الشعوب في الدول النامية. وهذا الوضع اعتبره الاقتصادي نيكولاس شتيرن "أكبر فشل لآليات السوق شهده العالم"، ولخَّصه بمقولته الشهيرة إنه "خصخصة للأرباح وتأميم للتكاليف والخسائر".

ولما كان هذا "الوضع الفريد" قد أدى بالمحصلة إلى تدمير المناخ ومراكمة ثروات بعشرات تريليونات الدولارات، فيصبح بديهياً أن تتحمل الشركات النفطية جزءاً كبيراً من تكاليف إصلاح الأضرار المناخية بتقليص انبعاثات الغازات والوصول إلى الصافي الصفري للانبعاثات، بما يتطلبه ذلك من استثمارات هائلة ليُستبدل بالبنية التحتية للطاقة الأحفورية من منصات حفر واستخراج وخطوط الأنابيب ومصافي التكرير ومناجم إلخ، بنية تحتية خاصة بالطاقة المتجددة، وما يتطلبه ذلك أيضاً من المساهمة في توفير التمويل للدول النامية للتكيف مع متطلبات الانتقال من الطاقة الأحفورية إلى الطاقة المتجددة. ونقول المساهمة لأن الدول الغنية تبقى المسؤولة الأولى عن توفير هذا التمويل لأنها المسؤولة عن تلويث الكوكب لبناء اقتصاداتها وتحقيق رفاهية شعوبها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن تعنُّت الدول الغنية برفض تقديم المساعدات المالية وإنشاء صندوق "الخسائر والأضرار" لن يؤدي إلى فشل كامل لقمة "كوب27" أو نصف فشل بأحسن تقدير، وحسب، بل قد يؤدّي إلى تقويض جهود الانتقال إلى عصر الطاقة المتجددة. فالدول النامية التي تمتلك موارد ضخمة من النفط والغاز والفحم، ستكون مضطرة إلى مواصلة استخدامها، ليس لتحقيق رفاهية شعوبها، بل لمواصلة البقاء على قيد الحياة.

الاستثمار في الأكاذيب

أما الجانب الثاني، وهو الأكثر إثارة للاستهجان ولغضب الدول النامية، فيتمثل بقيام شركات النفط باستخدام جزء كبير من الأرباح التي راكمتها للتنصل من مسؤولياتها عبر تمويل حملات إعلانية وعلاقات عامة وشراء ذمم عدد من العلماء والخبراء وجماعات الضغط بهدف "تبييض صفحتها" ونشر معلومات مضللة وكاذبة عن اهتمامها وسعيها للحفاظ على البيئة ومكافحة التغير المناخي وتطوير الطاقات النظيفة، وهو ما اصطُلح على تسميته بـ"الغسل الأخضر" المرادف لـ"غسل الأموال".

وهذه الحقيقة لم يذكرها أمين عامّ الأمم المتحدة فقط، بل كانت موضع تحقيق أجرته لجنة الرقابة بمجلس النواب الأمريكي العام الماضي حول دور صناعة النفط بالتشكيك في دور الوقود الأحفوري بأزمة تغير المناخ.

ووجهت اللجنة كتاباً إلى الرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل جاء فيه أن المشرعين "قلقون من قيام صناعة النفط بجهود منسقة ونشر معلومات لتضليل الجمهور ومنع اتخاذ إجراءات حاسمة للتصدي لتغير المناخ".

وفي مقاربة علمية بالغة الأهمية لإثبات هذه الحقيقة وممارسة "الغسل الأخضر"، أصدرت جامعة هارفارد ثلاثة أبحاث متتالية استندت في جانب منها إلى تحليل معمق قام به مركز أبحاث الطاقة والمناخ ومقره لندن للحملات الإعلانية والإعلامية التي نظمتها في العام 2021، خمس شركات نفط كبرى هي "بي بي"، وشيفرون، وإكسون موبيل، شل، وتوتال إنيرجيز، أظهر أن 60 في المئة من أصل 3421 عنصراً من موادّ الاتصالات ، كانت تحتوي على ادّعاء "أخضر" واحد على الأقلّ.

ورصد البحث تطور التضليل ونشر الأكاذيب عبر السنوات، فأشار إلى أن الحملات الإعلامية والعلاقات العامة التي نظمتها شركات النفط، استهدفت خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات التشكيك في صدقية علوم المناخ وخطورة انبعاثات الغازات الدفيئة.

وفي مرحلة ثانية امتدت حتى العام 2010 تم اعتماد ما أطلق عليه نائب رئيس إكسون موبيل، وهو أحد أهم خبراء العلاقات العامة، "تطويع اللغة لتقوم بالعمل القذر للسياسة". وتم تطوير الرسالة الإعلامية "من الإنكار إلى التأخير"، أي الاعتراف بأزمة المناخ ولكن تصويرها بأنها غير ملحَّة أو مؤجلة الحدوث، وأسلوب الاعتراف هذا، اعتمدته صناعة التبغ للتنصل من مسؤولية "تسويق منتج مميت".

مرحلة الغسل الأخضر

أما المرحلة الثالثة والمستمرة حتى الآن فهي مرحلة "الكذب" المباشر، إذ تقوم الشركات النفطية "بحملة منهجية لبثّ الرسائل الخضراء وتصوير أنفسهم على أنهم مؤيدون للمناخ"، كما قالت مديرة برنامج Influence Map، لشبكة "سي إن إن"، وقدرت الإنفاق المباشر لشركات النفط على أنشطة الاتصالات والإعلام بنحو 750 مليون دولار سنوياً، وهذا المبلغ لا يشمل أتعاب شركات العلاقات العامة، كما قالت.

وللدلالة على صحة ذلك، نشير إلى أن شركة "بي بي" مثلاً أنفقت خلال عامَي 2004 و2005 نحو 100 مليون دولار لتمويل حملة علاقات عامة لترويج فكرة البصمة الكربونية الشخصية، ولتكون الرسالة الضمنية هي دفع الأفراد للاختيار بين الرفاهية والحفاظ على المناخ، تماماً كما يحدث الآن بدفع الأفراد في أوروبا للاختيار بين الوقود الأحفوري أو التجمد من البرد.

ويلاحَظ حاليّاً أن شركات النفط تنفق عشرات ملايين الدولارات سنوياً كإعلانات مباشرة على غوغل أو لخبراء تقنيات البحث، للوصول إلى المستخدمين الذين يبحثون عن مصطلحات بيئية مثل (أخضر، صديق للبيئة، اتفاقية باريس، الاحتباس الحراري، صافي الانبعاثات، الطاقة المتجددة، إلخ). فقد رصد المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان نحو 32 ألف إعلان بين سبتمبر/أيلول 2020 وأغسطس/آب 2022 لشركات "بي بي"، وإكسون موبيل، وشيفرون، وشل، وأرامكو، تستهدف الحصول على أعلى نتيجة بحث.

ونختم بمفارقة طريفة حول دور الدول في مساعدة شركاتها على تلميع صورتها، حيث مبادرة الأسواق المستدامة، التي أطلقها الملك تشارلز عام 2020 عندما كان أمير ويلز، بمنح بريتيش بتروليوم "ختم تيرا كارتا" في مؤتمر "كوب26" في غلاسكو العام الماضي. وعلقت المجموعة البيئية Ocean Rebellion على ذلك بقولها إن منح الختم لشركة "بي بي"، التي تُعتبر من أكبر الملوِّثين في العالم، يقوّض مصداقية المبادرة، ويجب على المتورطين شنق أنفسهم خجلاً، لأن ما فعلوه "غسل أخضر صارخ ".

أليس أجدى من النواحي الاقتصادية والسياسية والمناخية، والأهمّ الأخلاقية، تخصيص جزء من الأرباح لتمويل الانتقال نحو الطاقة النظيفة ومساعدة الدول النامية على التكيف، بدلًا من تمويل حملات العلاقات العامة ونشر الأكاذيب والمعلومات المضللة؟ وربما ذلك ما قصده الأمين العامّ للأمم المتحدة بقوله إن شركات العلاقات العامَّة تجني مليارات الدولارات لحماية صناعة الوقود الأحفوري، عبر بثّ معلومات مضللة، ناصحاً شركات النفط بتخصيص "وقت أقلّ للتعامل مع كارثة شركات العلاقات العامة، ووقت أطول للتعامل مع كارثة التغير المناخي".

TRT عربي
الأكثر تداولاً