الرئيس إدريس ديبي  (Ammar Awad/Reuters)
تابعنا

انطلاقاً مِن الجنوب الليبي حيث تتمركز معظم حركات المعارضة المسلحة التشادية، مستعينة بمئات العربات رباعية الدفع وكميات كبيرة من الأسلحة والذخائر وبعض أسلحة الكورنت المضادة للدروع، التي حصلت عليها نتيجة تحالفها مع قوات الكرامة بزعامة الجنرال خليفة حفتر لا سيّما عند حصار طرابلس.

ومن المرجّح أنّ قوات مهدي تحركت دون ضوء أخضر مِن حفتر الذي ما زال يُعوّل على هذه القوات لدعمه في ظل الفترة الانتقالية التي يختبر فيها الفرقاء الليبيون قدرتهم على تجاوز المصالح المتضاربة ومعادلة النفوذ الخارجي المتزايد.

وقد كان واضحاً أنّ مهدي أصبح يفكّر جدياً بأن دوره في ليبيا انتهى، وأنّ الوقت يلعب ضده، وأنه ليس له مكان بين الليبيين إذا توصّلوا إلى اتفاق، وأن عليه أن يستفيد من قوته في تشاد قبل استهلاكها داخل ليبيا في حروب الآخرين، وربما كانت عينُه تتوجه صوب التفاوض مع السلطة في تشاد، ويريد مكسباً قبل أن يتلاشى دوره، وأنّ الوسيلة لذلك هي في إظهار قوته العسكرية وقدرته على قلب الطاولة في وقت الانتخابات الحرج، وأن هذه القوة هي ما ستقنع فرنسا وديبي على دعمه.

ومن الواضح أن فرنسا كانت تراقب هذا الحراك المفاجئ وتتوقّعه، ولم تتدخل لوقفه وصدّه، واكتفت بدعم الجيش التشادي لوجستياً بالمعلومات الجوية، وتحليل التقدّم السريع الذي فطِنت قوى المعارضة التشادية المسلحة الأخرى أنه استدراج لقوات مهدي إلى العمق لضربها، لا سيّما أن المدد بعيد، والذخيرة قليلة، وأن الانتصارات في مدن الشمال لا تعدو أن تكون هجمات على نقاط جمركية وحاميات صغيرة، وأنّ "فَيا" عاصمة تيبستي في الشمال مثلاً كانت بمنأى عن الاستهداف المباشر لقوات مهدي، فيما كانت الرئاسة التشادية تستخف بهذه المغامرة وتلحق هزائم عديدة بها في مناطق عديدة، حتى إنّ الرئيس ديبي سافر إلى الخارج في زيارة مجاملة لدولة إفريقية رغم هذا الهجوم.

وقد كانت المعركة محسومة في نظر ديبي لدرجة أنه اقتنع بالذهاب إلى إحدى الجبهات المشتعلة ليشهد بنفسه تدمير أرتال المعارضة فيها وتفقُّد جنوده المنتصرين في ماو عاصمة ولاية كانم، ولكنه تعرّض لإصابة هناك في ظروف مريبة، انتهت بإعلان مقتله بعد وصوله إلى العاصمة إنجامينا، وكان لافتاً أنّ مصادر المعارضة أعلنت مراراً إصابته ومقتل العديد من كبار قادة جيشه، ولكن لم يُنظر إلى تصريحاتها بجدية، واعتُبرت دعاية حربية كاذبة رغم أن جميع إجراءات الجيش داخل العاصمة كانت توحي بوجود حدث كبير خاصة أن الرئيس لم يخرج لتحية جنوده الذين توافدوا إلى قصره لإظهار فرحهم بانتصاراتهم على المعارضة.

كان الحدث كبيراً إلى درجة أنه قلب كل المشهد السياسي القائم، فقد أعلن الجيش تشكيل مجلس عسكري برئاسة ابن الرئيس الجنرال محمد إدريس ديبي، وأعطى لنفسه ثمانية عشر شهراً للانتقال إلى مرحلة أخرى غير محددة الملامح، ولم يحصل انتقال دستوري للسلطة إلى رئيس البرلمان كما هو النص الدستوري، ولم يظهر الفرنسيون في المشهد الانقلابي بوضوح، مما يوحي بأنهم يمسكون خيوط اللعبة رغم كثافة النيران وشدة الاضطراب، فقوات مهدي، الذي كان معروفاً بقربه من فرنسا قبل أن تتغيّر عليه نتيجة انحيازها إلى شخصية معارضة أكثر نفوذاً كان يعمل معها، كانت قد أصدرت بياناً تعلن فيه بوضوح أنها لا تستعدي فرنسا ولا تريد مواجهتها، لا سيّما أنها تدعو لدولة علمانية مثلها، وحذرت فرنسا من التدخل لصالح ديبي في هذه المعارك.

ولا تبدو فرنسا سعيدة بتطور هذه الأحداث الدراماتيكية التي تضعها بين خيارات صعبة وضيّقة ومحصورة، وهي تعلم أن هناك تربّصاً كبيراً بها، وأن هذه المرحلة قد تكون حاسمة في استمرار النفوذ الفرنسي أو انحساره.

ومع قوة الحدث الذي وصلت ذروته بمقتل الرئيس التشادي فإنّ المشهد القادم كان متوقعاً نحو تمكين سلطة الجيش الذي تقف وراءه عائلة الرئيس ديبي وأقاربه المتنفّذين في أجهزة الدولة كافة ولا سيّما المؤسسة العسكرية والأمنية والاقتصادية، ويبدو الجميع حريصاً على عدم استعداء فرنسا في هذه المرحلة التي تنظر فيها فرنسا بحذر إلى محاولات قوى تشادية عديدة قريبة من الدولة إلى تحجيم دورها والحد من نفوذها واستبدال جهات أمريكية وإسرائيلية وروسية بها، والاستعانة بأدوات إقليمية لتنفيذ هذا التوجّه.

هذا الحدث الكبير سيفتح ملف الصراع القبلي الحاد الذي تعبّر عنه واجهات سياسية وعسكرية كثيرة في تشاد، وتستعرض رغبتها في تحصيل حقوقها المهضومة في مناطقها المهمّشة، ومن المتوقع أن تمتد ألسِنة الصراع القبلي إلى مناطق الحدود التي تتداخل فيها القبائل مع بعضها في العديد من دول الجوار، ولعل أكثر الدول تأثراً ستكون ليبيا والنيجر والسودان، والتي ستعيد قبائلها ترتيب اصطفافاتها وشبكة تحالفاتها من جديد بحثاً عن مصالحها الجهوية والقبلية.

وتبدو ليبيا خاصرة رخوة نتيجة ضعف حضور الحكومة الانتقالية في الجنوب الليبي الذي تتحرك فيه قوى المعارضة التشادية دون خوف من ردود أفعال الحكومة، كما أن هذه القوات في ذروة نشاطها لمواجهة تداعيات مقتل ديبي ومحاولاتها ملء الفراغ الناتج عن غيابه.

أما دارفور في السودان فهي تستعدّ لحراك متناقض يجمع بين رغبة بعض القوى القبلية القريبة من الرئيس ديبي لتعزيز نفوذ ابنه محمد المنتمي إلى قبيلة الزغاوة، بينما يتخوّف الدارفوريون من انتقال القوى التشادية المنهزمة إليها وانضمامهم إلى قبائلهم الموجودة أيضاً في الأراضي السودانية، وهذا يعني أن هناك كميات كبيرة من السلاح ستدخل معهم إلى الساحة الدارفورية المضطربة والتي تعاني توترات قبلية حادّة، كما يخشون من تمدد الصراع القبلي إلى دارفور وبدء حملات تصفية انتقامية هناك.

وتنظر النيجر، التي فاز رئيسها مؤخراً في انتخابات حسّاسة على وقع اتهامات قبلية حادة بخطورة إلى هذه الأحداث لقربها الشديد من حدودها ذات القبائل المشتركة التي تتأثر بكل تداعيات المشهد التشادي بأقصى درجات الانفعال.

ولا تبدو الأمور تتجه نحو التهدئة بعد إعلان قوات مهدي رفضها الإعلان العسكري وإصرارها على الوصول إلى إنجامينا، واستنفار جميع قوى المعارضة التشادية نفسها بحثاً عن دور وسط هذه المعمعة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً