تابعنا
قبل عدة أيام، صرّح الرئيس الفرنسي، الذي يصارع موجات احتجاجية عارمة في بلاده، بأن بلاده سوف تتبنىَ تعريف "التحالف الدولي لتذكُّر الهولوكوست" لمعاداة السامية، ما أدّى لجدل واسع حول الأبعاد السياسية والقانونية لهذا الأمر إن تم فعلاً.

جاءت هذه التصريحات إثر خروج بعض الشعارات العنصرية والمعادية لليهود أثناء مظاهرات السترات الصفر على شاكلة "عودوا إلى تل أبيب" و"أيها الصهاينة" والتي استغلها ماكرون في معركته مع المحتجّين.

قال ماكرون، مخاطباً القادة اليهود في العشاء السنويّ للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية الفرنسية (CRIF) بأن: "ما يختبئ خلف إنكار وجود إسرائيل هو كره اليهود" متّهماً الشماعة المعتادة بقوله إن معاداة السامية تنبع من "الإسلاموية الراديكالية" في الحارات الفرنسية الفقيرة.

وحذّر بأن موجة معاداة السامية الحالية في ازدياد، وأنها الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، وكان من أخطر ما قاله بأن "معاداة الصهيونية هي من الأشكال الحديثة لمعاداة السامية" المجرَّمة قانوناً في فرنسا وفي دول عديدة أخرى.

فلو تمّ إقرار تعريف "التحالف الدولي لتذكُّر الهولوكوست" فإنه سيفتح الباب لتضمين حتى انتقاد سلوك إسرائيل ضمن تعريف "معاداة السامية".

حسان عمران

يُعرَف التحالف الدولي لتذكّر الهولوكوست معاداة السامية على أنها "إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير المصير، ومنها الادّعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو مسعىً عنصري"، ويشير هذا التعريف بشكل واضح إلى أن معاداة الصهيونية تدخل ضمن إطار معاداة السامية، بينما تحصر القواميس الأخرى، كقاموس أوكسفورد على سبيل المثال، التعريف في "معاداة أو الانحياز ضد اليهود" بشكل يفصل تماماً بين الأيديولوجيا والدين اليهودي.

أثارت هذه التصريحات الكثير من الجدل داخل فرنسها وخارجها؛ نظراً لتبعاتها السياسية والقانونية الكبيرة، فمن زاويةٍ رأى الكثيرون بأنها تشكّل تهديداً حقيقياً لإحدى أهم دعائم الديموقراطية الحديثة حرية التعبير؛ فقد كانت حرية التعبير، ولا تزال، إحدى أهم دعائم الديموقراطية؛ لأنها تشكّل سلطة رابعة فوق السلطة، وتشكّل رقابة على جميع أجهزة الدولة، بل وحتى على المجتمع المدني. وفي حال فتح هذا الباب فإن الأمر سيتدهور تدريجياً؛ حتى يصبح هذا المبدأ في خطر حقيقي، ورغم حساسية الأمر، فإن هناك سابقة لأستاذ جامعي فرنسي طالب فيها بإثباتات حول المحرقة وأدواتها، ما أدّى لتعرضه للمسائلة بتهمة إنكار المحرقة، فما كان من لجنة حقوق الانسان إلا أن حكمت لصالحه حماية لحقه في التعبير (انظر قضية فوريسون ضد فرنسا).

فلو تمّ الإقرار فإن ذلك لن يكون نهاية الأمر، بل سيفتح الباب لتضمين حتى انتقاد سلوك إسرائيل ضمن تعريف "معاداة السامية"، بل قد يحفّز بقية اللوبيات إلى الدفع باتجاه توسعة التعريفات المتعلقة بجرائم الكراهية وما يُسمّى بـ"جرائم الرأي" وغيرها لتصل لدرجة تحدٍّ من جوهر حرية التعبير والتحول تدريجياً لمجتمع شمولي، لا يوجد أي سبب منطقي يفسّر سبب تضمين أيديولوجيا حديثة ظهرت على يد يهودي نمساوي مجري (ثيودور هرتزل) ورأى فيها أن اليهود يجب أن يصبحوا أمة! فليس كلّ يهودي صهيونياً، وليس كل صهيوني يهودياً، بل إن هنالك العديد من المنظمات والفئات اليهودية المناهضة إمّا لفكرة الصهيونية أو لسلوك إسرائيل، فهل يصبح اليهودي المناهض للصهيونية معادياً للسامية؟.

إضافة إلى ذلك، فإن هكذا تعريفات لو تم إقرارها وتضمينها قانوناً، فإن ذلك قد تنظوي عليه حالة من الفوضى القانونية والدستورية، فهو سيتعارض إلى حد كبير مع المبادئ القانونية الفرنسية، بل وحتى الأوروبية، والتي لها سيادة على القوانين المحلية في بعض الحالات، وقد حصل بأن أفتت محكمة العدل الأوروبية ببطلان تشريعات محلية للدول الأعضاء؛ وذلك عدا عن حالة التناقض، التي قد تحصل جراء ذلك، فقد حكمت محكمة سابقاً لصالح مجلة شارلي إِبدو؛ حينما رفعت منظمة مسلمة دعوى قضائية ضدّها بتهمة الاعتداء على الحرية الدينية وحقوق الأقليات، إلا أن الصحيفة كسبت القضية بحجة ممارستها لحرية التعبير في مجتمع ديمقراطي. أفلن يحدِث هذا تناقضاً؟

أمّا على صعيد النشاط الداعم للحق الفلسطيني، فهنا تكمن الخطورة الأبرز؛ فلو تمّ إقرار هكذا تعريف، فإن العديد من المؤسسات الداعمة قد يتم ايقاف عملها تحت هذه الحجة، وستسهل ولا شك التضييق الشخصي على النشطاء المناصرين ، وبالتالي كبت الأصوات الداعمة والرافضة للانتهاكات الإسرائيلية المستمرة للقانون الدولي، وإعطاء سبب إضافي للحكومة الإسرائيلية للتمادي.

وتأتي هذه التصريحات في سياق سياسي مشبوه؛ فماكرون الذي يواجه تحديات تهدد استمراره في الحكم؛ بسبب مظاهرات السترات الصفراء قد وجد ضالته في تلك الشعارات التي أطلقها بعض المتظاهرين؛ فهذا سيسهل عليه شيطنة السترات الصفراء ووسمها بمعاداة السامية لتبرير التقصير والعثور على مخرج من هذا المأزق الوجودي بالنسبة له.

فقد اتّهم معارضو ماكرون اياه بأنه رئيس للأغنياء فقط، وأن الفقراء لا يتواجدون في أولوياته، وجاءت هذه المظاهرات كتجسيد لهذا الاتهام، وبالحصول على دعم اللوبي الصهيوني النافذ في فرنسا، يؤمّن ماكرون مستقبله السياسي ويخرج من عنق الزجاجة.

يحاول ماكرون الخروج من مأزقه بتقديم تنازلاتٍ على حساب الديمقراطية الفرنسية بأكملها ستكون الضحية الأبرز فيها هم النشطاء المناصرون للحق الفلسطيني.

حسان عمران

ولا بدّ من الإشارة إلى أنه في حال تمّ إقرار قانون من هذا النوع، فإن ذلك لن يكون بالضرورة قراراً نهائياً لا رجعة عنه، فالقانون الفرنسي نفسه قد يكون عائقاً، عدا عن محكمة لوكسومبورغ والتي بإمكانها إبطال بعض التشريعات التي تخالف المبادئ القانونية المؤسسة. 

وأمّا في حال إقراره وتفعيله على بعض النشطاء، فإن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان توفّر أدواتٍ للطعن في هكذا قرارات، تحديداً أن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في مادتها العاشرة تقرّ بوضوح مركزية حرية التعبير، وتضع محددات واضحةً للدول لاتخاذ إجراءات للحدّ من حرّية التعبير في حال كانت "متوافقة مع القانون" و"ضرورية في مجتمع ديموقراطي".

وختاماً، يحاول ماكرون الخروج من مأزقه بتقديم تنازلاتٍ على حساب الديمقراطية الفرنسية بأكملها، ستكون الضحية الأبرز فيها هم النشطاء المناصرون للحق الفلسطيني، إن من يعرف منهجية عمل اللوبيات الصهيونية يعي تماماً أنه كلّما حصلوا على تنازلات، فسيطلبون المزيد!.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً