تابعنا
ما قرب من 2750 طناً من نيترات الأمونيوم هوت بنصف مدينة بيروت وحطمت واقع وربما مستقبل كل لبنان المقسم طائفياً وسياسياً والغارق حتى أذنيه بالفساد وبطبقة من الحكام وأمراء الحرب المتناحرين.

في غمرة أزمة اقتصادية طاحنة وغير مسبوقة جعلت الدولة مفلسة بعد كورونا، ودفعت اللبنانيين للمطالبة برحيل الحكومة ورئيس الدولة أيضاً، جاء انفجار بيروت ليضرب عصب الاقتصاد ويشرد مئات الآلاف في الشوارع ويدفعهم للسخط العارم على السياسيين من مختلف الانتماءات.

من المسؤول؟

ومع الانشغال بالإغاثة ولملمة الجراح النازفة بغزارة، تداعى اللبنانيون وغيرهم للبحث عن المتسبب بالانفجار. هل هو الإهمال الذي يصل إلى حد الإجرام؟ أم الفساد المستشري في الطبقة الحاكمة؟ أم بتخزين حزب الله للأسلحة في الميناء والتسبب بكارثة؟ أم عدوان إسرائيلي بالطائرات أو بغيرها وهو ليس غريباً على لبنان؟

لا توجد حتى الآن إجابة محددة عن سبب الكارثة، هل هي نتيجة عوامل محلية أم عدوان خارجي؟ ولكن وجود هذه الكمية المهولة من المواد المتفجرة في الميناء ومنذ ستة أعوام دون أن يعرف سبب وجودها، ولماذا تركت طوال هذه المدة دون معالجة يسلط الضوء على الفساد الذي أورد لبنان المهالك، ومنع وجود رقابة حقيقية على تخزين مادة خطيرة في الميناء.

وفي هذا السياق جاء الجدل بين الجمارك والقضاة حول المسؤولية عن عدم التخلص من هذه المادة التي جاءت على متن سفينة أجنبية قبل ستة أعوام، ليتأكد أن الفساد هو السبب الرئيسي وليس الإهمال الذي يمكن أن يلصق بموظفين حكوميين.

وحق للبنانيين أن يطلقوا حملة "علقوا المشانق"، ولكن لمن ستعلق المشانق مع تشكيل لجنة حكومية للتحقيق، فهل تستطيع هذه اللجنة أن تتهم مسؤولين تغاضوا عن الإهمال وغطوه؟ بالتأكيد لا، ما يدفع للاعتقاد أن التحقيق لن يخرج بنتائج حاسمة وقد يطيح بموظفين عاديين أو مسؤولين مباشرين فقط.

يحاول بعض السياسيين المحسوبين على دول الثورات المضادة، ولأسباب تتعلق بمحاولة إدانة حزب الله وتبرئة إسرائيل من أي مسؤولية محتملة عن الانفجار، نقل التحقيق إلى المستوى الدولي كما جرى في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ولكن من قال إن هذا التحقيق لن يكون مسيساً أو يتوصل لنتائج حاسمة؟!

نظرية المؤامرة

خرجت بعض الأصوات لتحمل حزب الله المسؤولية عما جرى لأنه قام بتخزين هذه المادة في منطقة مدنية وعمد إلى إخفائها بحكم نفوذه ووجوده في الميناء، وذهب البعض إلى اتهام الحزب بأنه اتخذ من الميناء مكاناً لتصنيع الصواريخ والمتفجرات بحكم نفوذ الحزب في بعض مفاصل الدولة، بل وحتى تصنيع البراميل المتفجرة وتهريبها لنظام بشار الأسد ليقتل بها شعبه، وهي رواية لا سند لها حتى الآن على أقل تقدير. 

ولو سلمنا بهذا السيناريو أو الاتهام فإننا لا نعلم أماكن ومجالات هذه السطوة، وما إذا كان الحزب هو المسؤول عن الإبقاء على المادة الخطرة في الميناء فضلاً عن تهريبها للحزب في الجنوب أو حتى لنظام الأسد المجرم.

ومن المؤكد أنه من مصلحة فريق 14 آذار محاصرة الحزب واتهامه، وفي نفس الوقت حرص فريق 8 آذار على نفي التهمة وربما كذلك عدم اتهام إسرائيل بضرب الشحنة في الميناء لأن من شأن ذلك أن يثير السخط عليه.

ولذلك فإنه يصعب الجزم بمسؤولية الحزب الأخلاقية عما جرى ولا يمكن معرفة حقيقة نفوذه في المنافذ الحدودية ضمن توافق القوى السياسية وتفاهماتها في الميدان بخصوص الصلاحيات المدنية أو الجغرافية.

مسؤولية إسرائيل

وفي المقابل تحدث البعض عن مشاهدة طائرة حلقت فوق مكان الانفجار فيما أشار آخرون إلى صاروخ سقط في المكان متهمين إسرائيل باستهداف المنشأة البحرية، وهي التي بدورها نفت تورطها وسارع إعلام دول الثورات المضادة إلى تبرئتها أيضاً!

ولا شك أن سيناريو مسؤولية إسرائيل عن التفجير غير مستبعد من ناحية المبدأ، فالكيان الصهيوني معني بإدخال لبنان في حالة من الأزمة وتعطيل الميناء الذي يشكل أحد منافذ حزب الله لإدخال مواد تساعده في مقاومة إسرائيل أو حتى تسند تدخله المدان في لبنان، ولكن لا يوجد دليل حقيقي يمكن الاستناد إليه على قصف طائرات أو سقوط صواريخ على الميناء، كما أن نشاط أي طائرة في المنطقة كان ليكتشف من الرادارات!

ولكن من قال إن إسرائيل ليست لديها وسائل أخرى قد تكون أقل كلفة وغير مكشوفة لاستهداف الميناء مثل تجنيد استخباراتها لعملاء من أجل زرع قنبلة أو صاعق تفجير لمادة نيترات الأمونيوم بحيث تظل مسؤولية التفجير غامضة، وهذه عملية سهلة بالنسبة للموساد في ساحة مخترقة كساحة لبنان.

لقد فعل الكيان الصهيوني ذلك في مفاعل نطنز بإيران رغم التشديدات الأمنية وصعوبة الاختراق، دون أن يعلن مسؤوليته ودون أن يسير طيراناً مكشوفاً لقصف المفاعل النووي، فما الذي يمنعه من فعل ذلك في بيروت أو أي مكان؟

لكن إن صحت هذه النظرية، فإن حزب الله سيتحمل مسؤولية أخلاقية عن تخزين هذه المواد في مناطق مدنية، وإصراره طوال السنوات الماضية على التغطية على هذا النشاط.

وفي أي من السيناريوهين تظل إسرائيل وحدها المستفيدة مما جرى والخاسر الأكبر هو لبنان واللبنانيون.

لبنان.. تسونامي شامل

لبنان يعيش الآن في أجواء كارثة محققة ويتجه نحو المجهول وعواقب يصعب تخيلها أو معرفة مداها.

فهناك نقص استراتيجي في المؤن وتدمير للمقدرات الاقتصادية من تجارة وأسواق ومحال تجارية في ظل تدمير الميناء وهو عصب التواصل مع العالم الخارجي وأحد مصادر الدخل المهمة للدولة، حيث إن وقف نشاطه في فترة الضائقة الاقتصادية التي يمر بها البلد سيكون له مفعول فتاك، فضلاً عن ضرب شبكة الكهرباء والمنظومة الصحية والسياحية والبنية التحتية وإمدادات الطاقة.

والأخطر من هذا، التخوف من حدوث أزمة سكانية خطيرة بعد أن وجد نحو 300 ألف لبناني أنفسهم في الشارع بدون مأوى.

ورغم مسارعة العديد من الدول لمد يد المساعدة إلا أن حجم الكارثة يحتاج لضخ عشرات المليارات من الدولارات، الأمر الذي قد يغير بوصلة الارتهانات في القرار السياسي لجهات عربية أو دولية قد تؤدي لتغييرات في التركيبة السياسية فيه بما في ذلك التأثير في "اتفاق الطائف" في بلد مشتت الولاءات.    

ستمس حمم التفجير كل شيء في لبنان بدءاً من المواطن العادي الذي سيتضرر في معيشته ومروراً بطبقة أصحاب المصالح التجارية والمشاريع الصغيرة والكبيرة، والعلاقات بين الأحزاب السياسية والتركيبة النهائية للحكومة، وصولاً إلى قضية سلاح حزب الله الذي سيحتدم الخلاف حوله إلى درجة قد تهز استقرار البلد في ديمقراطية هشة وشكلية تخفي تحتها نظام محاصصة طائفية مقيت.  

وإذا صنف الانفجار بأنه بمستوى قنبلة نووية تكتيكية فإن آثاره الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية قد تكون أقوى من الانفجار نفسه وتؤثر على مستقبل البلد برمته.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي