تابعنا
يحاول ماكرون إعادة تصالح فرنسا مع ماضيها الاستعماري من خلال تمجيد بعضاً من القادة الذين تصدروا الحركات المناهضة للاستعمار والامبريالية، وانتقاد الرأسمالية ممارسةً غير إنسانية.

قبل عدة أسابيع زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سجناً له تاريخ عريق إبان الفترة الاستعمارية ويعتبر رمزاً من رموز الامبريالية الفرنسية التي سحقت عديداً من الشعوب وقضت على آمالها في النهضة. في ذلك السجن الذي يدعى "فورت دي جو" مات أحد أبرز زعماء مناهضة الاستعمار والعبودية الزعيم الهايتي وقائد الثورة الهايتية توسان لوفرتور في 7 أبريل/نيسان 1803 عن عمر يناهز 60 عاماً.

جاءت زيارة ماكرون للسجن العسكري تزامناً مع الذكرى 175 لإلغاء الرق في فرنسا. وفي معرض حديثه امتدح ماكرون توسان لوفرتير لسعية في تجسيد حقوق الإنسان والمواطنة والدفع بقيم الجمهورية الفرنسية "الحرية والمساواة والأخوة للجميع". أصبغ الرئيس الفرنسي، بطريقته المعتادة في الخطابات العاطفية، الشجاعة على الرجل الذي قضى نحبه في السجن بسبب خيانة "الأخوة" الفرنسية له، التي كشفت أن "الأخوة" في ظل اختلاف العرق هي التعبير المختزل للإمبريالية والاستعباد.

كان توسان لوفرتير زعيماً رئيسياً في الثورة الهايتية، وأسهم عمله النضالي في قيام هايتي أول جمهورية سوداء مستقلة عام 1804. عُرف عنه ذكاؤه الحاد، وقدرته على تجميع الفرقاء لتشكيل جبهة واحدة ضد الاستعمار، وخاض حروباً ضد الفرنسيين والإسبانيين والبريطانيين.

لعب نابليون بونابرت دوراً مهماً في اعتقال توسان لوفرتور. في ذلك الوقت، كان نابليون أول قنصل لفرنسا وكان لديه طموحات واضحة لإعادة السيطرة الفرنسية على مستعمراتها، بما في ذلك سانتو دومينغو (هايتي)، التي نالت استقلالها خلال الثورة الهايتية. خشيت فرنسا أن يكون استقلال هايتي حلقة من لعبة دومينو قد تحفز المستعمرات الأخرى على الانتفاض والمطالبة بالاستقلال الأمر الذي يضع نفوذ فرنسا قوة إمبريالية على المحك. وهو ما حصل فعلاً إذ قامت حركات ضد الاستعمار في العديد من الأماكن أبرزها أمريكا اللاتينية.

في عام 1802، أرسل نابليون رحلة استكشافية إلى سانتو دومينغو بقيادة صهره الجنرال تشارلز لوكليرك بهدف قمع التمرد واستعادة السلطة الفرنسية. جزءاً من هذه المهمة، أُمر لوكلير بالقبض على توسان لوفرتور وإعادته إلى فرنسا سجيناً.

تحت غطاء المفاوضات والبحث عن المصالحة، تمكن لوكلير من إقناع لوفيرتور بمقابلته ليتضح لاحقاً أن الدعوة إلى المفاوضات كانت فخاً من أجل القبض عليه وهو ما حدث في 7 مايو 1802. إثرها أُرسل إلى فرنسا، حيث سُجن ومات لاحقاً.

كان قرار نابليون بإرسال لوكلير وتنسيق اعتقال لوفرتور مدفوعاً بالرغبة في استعادة السيطرة على سانتو دومينغو وإعادة العبودية إلى الجزيرة في تناقض واحد لمبادئ الثورة الفرنسية آنذاك. اعتُبر القبض على لوفرتور ضربة قوية للثورة الهايتية ووسيلة لإعادة الهيمنة الفرنسية. ومع ذلك، على الرغم من اعتقال لوفرتور، استمرت الثورة الهايتية تحت قيادة شخصيات رئيسية أخرى مثل جان جاك ديسالين، وهنري كريستوف، مما أدى في النهاية إلى إنشاء هايتي أول جمهورية سوداء مستقلة في عام 1804.

بعد مضي أكثر من قرن على وفاته، يأتي رئيس فرنسي ليقف على رفاته ويمتدحه ببعض كلمات تعبر عن بطولته ودوره في قضية عادلة كانت فرنسا ألقت بكل ثقلها من أجل القضاء عليها بكل أساليب القمع. يحاول ماكرون ومنذ استلامه مقاليد السلطة في الإليزيه أن يعيد العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة على قاعدة جديدة هي قاعدة الاحترام المتبادل. ولكن لا يبدو أن إعادة العلاقة هذه تتجاوز حدود الخطاب.

يحاول ماكرون أيضا إعادة تصالح فرنسا مع ماضيها الاستعماري من خلال تمجيد بعضاً من القادة الذين تصدروا الحركات المناهضة للاستعمار والامبريالية، وانتقاد الرأسمالية ممارسةً غير إنسانية. ففي زيارته الثانية إلى ساحل العاج عام 2019 اعتبر ماكرون أن الاستعمار كان "خطأً فادحاً"، وأقر بالعلاقة التاريخية والمعقدة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، وشدد على أهمية مواجهة الماضي من أجل المضي قُدُماً في علاقة احترام متبادل.

وفي الجزائر وخلال زيارته التي أجراها عام 2017 اعترف ماكرون بـ"الجرائم والأعمال البربرية" التي ارتكبتها فرنسا خلال حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962). وبينما لم يقدم ماكرون اعتذاراً رسمياً للجزائر، أشار إلى الاستعمار على أنه "جريمة ضد الإنسانية" وشدد على أهمية المصالحة ومواجهة الماضي. وفي كاليدونيا الجديدة وفي أثناء زيارته عام 2018، أعرب ماكرون عن أسفه للعنف والمعاناة التي عانى منها شعب الكاناك الأصلي خلال الحكم الاستعماري الفرنسي. وذكر أن الاستعمار نظام "غير عادل البتة" ودعا إلى مسار الحوار والاعتراف بالماضي.

ما يفشل ماكرون دائماً في التعامل معه هو ترجمة هذه التصريحات الرنانة إلى سياسات واقعية من أجل إثبات نية فرنسا الجادة في تصحيح مسارها المتعلق بالإرث الاستعماري الذي خلفته. في غالبية خطاباته يقر الرئيس ماكرون بأن الاستعمار كان "خطأً فادحاً"، وأنه "نظام غير عادل البتة" ولكنه يطمس (عمداً) أي ذكر لآثار للاستعمار الفرنسي التي ما زالت إلى الآن حاضرة ويعاني منها عديد من الشعوب المستضعفة. ما زال عديد من المستعمرات الفرنسية السابقة مرتبطاً بفرنسا عبر شبكة غير متكافئة من العلاقات التي تؤبّد علاقة السيد-العبد.

ربما هنا يبرز "الفرنك الإفريقي" مثالاً على الآلية الاقتصادية الاستعمارية التي ما زالت فرنسا تمارسها على عديد من الدول الإفريقية بطريقة تحقق الرفاه الاقتصادي لفرنسا على حساب هذه الدول التي تبقى في حالة عجز مالي ومديونية لباريس.

فالفرنك الإفريقي يدار بشكل مباشر من الخزانة الفرنسية وهو الأمر الذي يمنح فرنسا سيطرة مطلقة على عملة عديد من الدول الإفريقية. كما أن الفرنك الإفريقي مرتبط بسعر صرف اليورو وهو ما يعني أنه سعر صرفه ثابت وهو ما يقيد مرونة الدول الإفريقية في تعديل سعر صرف عملاتها بناء على ظروفها الاقتصادية. يؤدي ذلك بالمحصلة إلى نوع من الاختلال التجاري المزمن بين هذه الدول وبين فرنسا بحيث تبقى واردات فرنسا أكثر تنافسية الأمر الذي يعيق التنمية الاقتصادية المحلية.

أيضاً الذهب الإفريقي الذي تستحوذ عليه فرنسا وتخزنه في مستودعاتها، فضلاً عن الثروات الطبيعية مثل اليورانيوم التي تستخرجه فرنسا بكيمات كبيرة من النيجر على سبيل المثال لتنير شوارعها فيما تقبع البلاد في ظلام دامس.

الأمر لا يتوقف عند الاستغلال الاقتصادي المتوحش، بل يمتد إلى القضايا الاستراتيجية والسياسية، فقد ساهمت باريس بتدبير عديد من الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية لإدامة نفوذها السياسي هناك والاستمرار في ممارسة دور "السيد" مثل الانقلاب العسكري في مدغشقر 2009، وساحل العاج في 1999، وبوركينا فاسو عام 1983.

لا يعتبر الاستغلال غير المباشر للمستعمرات جديداً على فرنسا وهو الشيء الذي لا يقر به ماكرون، ويحاول عن قصد السكوت عنه وتجاوزه في خطاباته الرنانة.

فعلى الرغم من إعلانها الاستقلال عام 1804، فإن إرث فرنسا الاستعماري في هايتي لم يتوقف عند ذلك التاريخ. ففي عام 1825 عادت فرنسا بسفنها الحربية إلى الجمهورية الفتية وأجبرتها على دفع تعويضات عن خسائر الاستعمار. وبذلك تكون هايتي أول دولة في تاريخ يدفع أهلها تعويضات للغزاة بسبب استعمارهم. أدت هذه التعويضات حسب بعض الدراسات التاريخية إلى تأخير التنمية في هايتي لمدة قرن على الأقل. هذه هي الطريقة نفسها التي تتبعها فرنسا حالياً مع عديد من مستعمراتها السابقة. فهي وإن لم تهدد بالحرب من أجل الحصول على تعويضات، فإنها ومن خلال شبكة النفوذ، تحصل على هذه التعويضات بأضعاف مضاعفة وهو ما يعد سبباً كبيراً في التخلف الاقتصادي الذي تعيشه هذه الدول حتى يومنا هذا.

بالأخير، في نظري يعتبر الرئيس ماكرون ظاهرة صوتية. ربما تدغدغ خطاباته السذج من المستمعين ولكنها في الحقيقية لا تؤدي إلى أي سياسة حقيقية على الأرض لمعالجة الإرث الاستعماري لفرنسا القديم منه أو الجديد. لا يتصف ماكرون حتى بجرأة بعض رؤساء فرنسا الذين سبقوه. فالرئيس فرانسوا هولاند على سبيل المقال وعد بأنه سيعمل على سداد الديون المترتبة على فرنسا جراء استعمارها لهايتي وهو الأمر الذي لم يجرؤ عليه ماكرون.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي