تابعنا
يعرف جون بولتون ومايك بومبيو ما فعلاه بالرئيس ترمب، إذ جعلا قراره تشديد الحصار لكي يقود ذلك إلى إجبار إيران على التفاوض، ولكن ما لا يعرفانه هو أن تشديد الحصار قد يقود إلى الحرب لا إلى التفاوض، لأن إيران لا تذهب إلى مفاوضات استسلام.

كانت قراءة موازين القوى سهلة في مرحلة الانقسام الدولي إلى معسكرات ومحاور، وكانت في داخل كل معسكر دولة كبرى تقوده وتنظم علاقاته الداخلية، وكان من بين المعسكرات تلك المعسكرُ الأقوى عسكرياً ونفوذاً اقتصادياً وسياسياً والأكثر تقدماً علمياً وتقنياً.

النموذج العالمي والإقليمي والمحلي لموازين القوى هنا تَمثَّل في ما عُرف بمرحلة، أو حقبة، الحرب الباردة، ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى انهيار الاتحاد السوفياتي، معسكر وارسو 1991.

ومنذ انتهاء الحرب الباردة في مطلع التسعينيات تَصوَّر للكثيرين أن العالم دخل في ميزان قوى يتجسد بسيطرة مطلقة، أو شبه مطلقة لقطب واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية. ووصل الأمر بالبعض إلى الحديث عن "نهاية التاريخ" باستسلام العالم للحضارة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

لم تمضِ عشر سنوات حتى راح الكثيرون يتحدثون عن الاتجاه نحو ميزان قوى متعدد القطبية، وذلك بعد أن تَبيَّن أن إقامة نظام عالمي يقوده قطب واحد لم يتحقق، وانتقلت أمريكا إلى محاولة العسكرة في عهد المحافظين الجدد بعد أن بانت نقاط ضعف كثيرة في سياستها الخارجية. وبعد أن تعثرت محاولتها لقيادة العالم قيادة منفردة في عهدَيْ بيل كلينتون وجورج بوش الابن.

فبدلاً من أن تستعيد أمريكا في العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين قيادتها من خلال الحروب التي شنّها المحافظون الجدد على أفغانستان والعراق، وما تبعها من فشل وإخفاقات في لبنان وفلسطين، استعادت روسيا موقعها كدولة نووية كبرى، وترسخت مكانة الصين كقوة كبرى اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً. وزادت الهوة بين أمريكا وأوروبا. وبرزت الهند وتركيا وإيران وجنوب إفريقيا والبرازيل، كقوى إقليمية كبرى، وذات شأن دولي وإقليمي.

الأمر الذي أدخل العالم في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين في حالة من الفوضى والاضطراب. وقد سُمّيت المرحلة بمرحلة تعدد القطبية الدولية والإقليمية، من دون قيام نظام يضبط هذا التعدُّد، ويحدد لكل طرف فيه مكانته ودوره في معادلة موازين القوى الدولية والإقليمية الجديدة، وهذا ما أُطلِقَ سباق تسلُّح جديد بين روسيا وأمريكا (ويمكن أن تضاف الصين، بلا صعوبة). وأصبح الوضع العالمي أقرب إلى "الحمام المقطوعة مياهه" من حيث مظهر الفوضى والارتباك وسعي كل طرف أن يتدبر رأسه من جهة، وأن يغتنم ما يستطيع من جهة أخرى.

هذا الوضع فجّر مجموعة من الأزمات لا سيما في البلاد العربية والإسلامية، متركزة فلسطينياً على صراع حاد مع أمريكا والكيان الصهيوني، كما بين أمريكا وروسيا، وأمريكا والصين، فضلاً عن خطر التدحرج نحو الحرب بين أمريكا وإيران راهناً.

من جهة يعلن ترمب أنه لا يريد الحرب ولكن كل ما يفعله في الحصار الاقتصادي والمالي ضد إيران يتجه نحو الحرب هرولة إن لم يكن ركضاً.

منير شفيق

فعلى سبيل المثال، ولنبق في حدود العشريتين الأخيرتين، فقد كان من السهل أن يُقرأ إلى أين يتجه الصراع بين أمريكا والعراق في عام 2002/2003، وذلك من حيث التأكد من القرار الأمريكي بشنّ الحرب من الجو والبحر والبرّ على العراق من جهة، ومن حيث ردود الفعل التي ستصحب تلك الحرب من جانب العراق، من جهة أخرى، أي تقدير النتيجة.

أما اليوم فقد أصبح صعباً بمكان قراءة المواجهة بين أمريكا ترمب وإيران، إلى أين تتجه؟ فمن جهة يعلن ترمب أنه لا يريد الحرب، ولكن كل ما يفعله في الحصار الاقتصادي والمالي ضد إيران يتجه نحو الحرب، هرولة إن لم يكن ركضاً. وإلّا فما معنى إرسال أكبر بارجتين أمريكيتين من حاملات الطائرات والصواريخ بصحبة أرتال من طائرات بـي-52 إلى الخليج؟

عندما تتناقض الأفعال مع الأقوال، فالتقدير الصحيح للموقف يجب أن يذهب إلى الأفعال. وعندما يصل الحصار إلى الخنق، وقطع الأنفاس، يكون بمثابة "قطع الأعناق" كما يقول المثل العربي "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق". فكيف إذا كان في موضوعنا ثمة بُعد سياسي- استراتيجي وراء الحصار يتعلق بتبني أمريكا للموقف "الإسرائيلي" من إيران؟ ومن ثم تسخيرها للقيام بالمهمة التي عجز أمامها الجيش الصهيوني.

هذا وذاك يعنيان أننا أمام أسباب ترجح الاشتباك العسكري، والتوتر الأقصى وصولاً إلى الحرب. فإيران لا تستطيع إلّا أن تدفع عنها الحصار حين يشتد إلى ما هو ذاهب إليه من شدة. وذلك باستخدام ما لديها من أوراق، ولو بالحكمة والتدرج. في المقابل، هدّد ترمب باستخدام القوة العسكرية إذا ما ردّت إيران على أمريكا أو على حلفائها في المنطقة. هذه المعادلة التي فرضها ترمب على إيران وعلى نفسه تغلّب احتمال التدرج بالمواجهة نحو الاشتباك والتوتير الشديد.

مشكلة ترمب في الحالة الإيرانية أنه صعّب على نفسه التراجع، وجعله مكلّفاً جداً، فيما هو من النوع الذي يسهل عليه التراجع على الرغم مما فيه من عناد وحتى عناد طفولي.

المعادلة التي فرضها ترمب على إيران وعلى نفسه تغلّب احتمال التدرج بالمواجهة نحو الاشتباك والتوتير الشديد.

منير شفيق

من هنا يكون العالم أمام حالة من موازين القوى جديدة جدّاً لا يتبين معها الاتجاه الذي تذهب إليه الأمور. ولكن ما هو مؤكد أن عالم السيطرة الأمريكية قد انتهى، وبدأت الخسائر تلاحقها، وما يفعله ترمب هو تعريضها لخسائر مجانية بسبب سياساته الخارجة على القواعد الأساسية، وبسبب إعطائه أولوية لخدمة "السياسات الإسرائيلية" كما يصوغها عتاة الصهاينة من حوله.

فجون بولتون وجيراد كوشنر يريدان جرّه إلى الحرب على العكس من تصريحاته التي لا تريد الحرب، وقد أذاعت قناة "سي إن إن" نقلاً عن "نيويورك تايمز" أن ترمب منزعج من مستشاره للأمن القومي جون بولتون بسبب مناخات التصعيد التي أشاعها.

طبعاً هذا الانزعاج يُضعِف احتمالات الحرب، ولكن لا يلغيها ما لم يتراجع ترمب عن قراره الأساسي وهو الذهاب بالحصار على إيران إلى أقصى مدى. فما يجري حتى الآن هو الذهاب بالحصار إلى أقصى مداه، الأمر الذي سيؤدِّي بترمب إما إلى التراجع المذل لأن إيران لا تستطيع أن تقبل بهذه المعادلة، وستعمل على كسرها، وإما إلى الحرب وباحتمالات عالية.

يعرف جون بولتون ومايك بومبيو ما فعلاه بالرئيس ترمب، إذ جعلا قراره تشديد الحصار لكي يقود ذلك إلى إجبار إيران على التفاوض، ولكن ما لا يعرفانه هو أن تشديد الحصار قد يقود إلى الحرب لا إلى التفاوض، لأن إيران لا تذهب إلى مفاوضات استسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

Reuters
الأكثر تداولاً