تابعنا
تمرّ التجربة الديمقراطية في تونس بمخاض عسير جرَّاء تدخُّل بعض الجهات الخارجية التي تسعى للإطاحة برئيس البرلمان راشد الغنوشي، وذلك من خلال الاستعانة ببعض الجهات الداخلية من أمثال عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر.

لا يحتاج المرء إلى تضخيم المعيقات المسلطة على التجربة الديمقراطية التونسية من خارجها بحيث تمنعها من التقدم وتحقيق مكاسب ثابتة. يكفي المرء أن ينظر في المعيقات الداخلية لينتهي إلى أن التجربة برمتها تراوح غالب الوقت مكانها وفي هذه الصائفة المصابة بوباء الكورونا والاستئصال السياسي يمكن الجزم أن المراوحة في ذاتها مكسب، لأن التقهقر إلى زمن بن علي صار جلياً.

أزمة اقتصادية واجتماعية منذرة بهلاك جماعي

تطفو على سطح الأخبار التونسية هذه الأيام صور "الحَرَّاقَة". أسر كاملة بأطفالها تركب زوارق الموت وتغامر إلى بلدان أوروبا بحثاً عن رزق أو هرباً من ضيق السياسة والبؤس الإعلامي الذي يعدم النفوس.

 يسعفهم البحر بليال هادئة وقد صاروا خبراء مناخ بالقوة. بينما لا يسعفهم بلدهم بمورد رزق محترم يقيهم ذل الهجرة خارج القانون. لديهم علم بأيام بؤس تنتظرهم على الضفة الأخرى لكن لديهم علم أكبر بما فعلت بهم نخبة البلد السياسية. فهم في وضع الاختيار بين بؤسين.

موارد البلد الاقتصادية توقفت عن الإنتاج. مناجم الفوسفات أغلقت أبوابها. وقطارات النقل واقفة في منتصف الطريق ممنوعة من العبور. ومضخات النفط والغاز أغلقها الشباب العاطل بالجنوب.

يتظاهر كثيرون بالاحتفال بعيد الأضحى لكن غالبية منهم تنظر إلى الأضاحي في السوق وتجس جيوبها فلا تجد ثمناً للخاروف. ويكتب السّاخرون بحثنا عن فتوى الاشتراك الأسري في أضحية واحدة.

في الأثناء يستنزف السياسيون جهدهم في صراعات استئصالية بلا أفق. متغاضين عن الأزمة الاقتصادية التي تطحن في البلاد. فيقدمون هواهم السياسي على حاجات شعبهم ويزعمون قيادة البلد إلى وضع ديمقراطي. كأن الديمقراطية السياسية هدف في ذاتها وليست وسيلة لخدمة الناس، وتوفير أمنهم، وقوتهم، وسلامة بلدهم من كل عدوان خارجي متربص، ومن كل تخريب داخلي تقوم عليه أدلة وعلامات كثيرة لا يخطئها إلا من يتعامى عن الحقيقة الفاجعة. البلد ينهار والتجربة الديمقراطية تسقط بأيد تونسية أولاً.

منطق الاستئصال يقود معركة التخريب

الهوى السياسي أو الهوس المرضي هو أن تقوم جماعة من السياسيين فيجدون بلداً بلا إسلاميين. هذا ليس جديداً فهو ديدن النخبة السياسية منذ ظهر الإسلاميون في تونس. وقد بذلت جهود تصل لنصف قرن لمنع الإسلاميين من الحياة السياسية.

لقد منعت الثورة إبعادهم بقوة الأجهزة على طريقة بن علي. لكن ذلك لم يكف السياسيين الذين يصرون بعد على مواصلة المعركة نفسها بدون الأجهزة الأمنية. ولكن باستعمال آلة الدولة والقانون. لا أحد يطرح السؤال لماذا نتردى في هذه المعركة؟

أول إجابات النخبة السياسية هي أن هذه المعركة لا وجود لها بل هي من اصطناع الإسلاميين أنفسهم. ولكن الوقائع تترادف لتثبت أن ليس للنخبة برنامج عمل آخر. فحيث ما يولوا لا نسمع على ألسنتهم إلا أن حزب النهضة يجب ألا يحكم.

وقائمة المبررات المصطنعة لها أول وليس لها آخر؛ ومنها القول بالفساد، دون ملفات ترفع للقضاء وإنما مجرد تضخم في إعلام موجه لطبقات شعبية هي القاعدة الناخبة الغالبة لحزب النهضة فيرسخ في أذهانها دون أدلة أن النهضة هي الفساد في ذاته.

الخلفية الاستئصالية حرمت النهضة من رئاسة الحكومة رغم أنها الحزب الأول الفائز في الانتخابات. والدستور يخول له شغل هذا الموقع. ويجري الآن إخراج رئيس الحزب من البرلمان مع رغبة كبيرة في إهانته و(مرمطته).

ولأن رئاسة الدولة ليست للحزب فسيجد نفسه بالتالي خارج الرئاسات الثلاث. وسوف تتشكل الحكومة القادمة دون مشاركته، ولو رفض معارضتها ومنحها التصويت والمصادقة.

لو توقف الأمر عند هذا الحد لهان ولبقيت التجربة في سياق معقول. ولكن إخراج الحزب من كل موقع تنفيذي وتشريعي هو خطوة متقدمة في طريق استئناف عمل الأجهزة القمعية ضده. فالخطة واضحة وتقوم أولاً على تجريده من مواقعه ثم التوجه لضربه على طريقة بن علي. ولا نرى الأمر يتأخر عن بداية الخريف.

المانع الوحيد الذي قد يؤجل هذه التصفية السياسية بوسائل الدولة هي أن تنفجر الأزمة الاقتصادية/الاجتماعية في وجوه الجميع. فلا يجدون وقتاً لحرب قذرة عانى منها الشعب التونسي منذ نصف قرن ولم ترتق النخبة فوقها لتمر بالبلد إلى استثمار إمكانياته الفعلية في التنمية.

وعندما يحتمي المرء بالانفجار الاجتماعي من معركة استئصال فإن ذلك يصير أكبر مؤشر على حالة الانهيار الأخلاقي والسياسي الذي تمر به التجربة التونسية برمتها.

المقصلة السياسية تقضى على مستخدمها

زاوية النظر التي أكتب منها لا تقوم على أن حزب النهضة التونسي سار في خط سياسي سوي منذ عودته بعد المنافي. فقد ناور الحزب مناورات خاطئة وضعته في موضع ضعف سياسي (تكتيكات تحمل السيئ لاجتناب الأسوأ) ولكن الأخطاء السياسية لا تؤدي إلى إعدام الحزب. وما نراه الآن هو مسار إعدام سياسي لا شبهة عليه. ومن قال إن الأطراف الأخرى لم ترتكب الأفظع والأسوأ؟!

المحاسبة السياسية الجارية للحزب الآن ليست متعادلة مع أخطاء سياسية ارتكب مثلها الكثيرون منذ الثورة، مثل خطأ التعامل مع المنظومة السياسية التي دحرتها الثورة. فالجميع هنا متورط ولا تنطلي المزايدة بالطهورية الثورية إلا على الغافلين ممن لا يقرؤون المسارات في مجملها بل يجتزئون الحدث المحدود من السياق.

نختم من داخل البؤس السياسي المسيطر. هناك فاعل اسمه التاريخ يمسك كراساته دوما ويكتب بحبر صيني عندما يخرج رئيس البرلمان (إذا نجحوا في التصويت ضده في البرلمان) بهذه الطريقة من المجلس، التي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها لا تليق، سيزغرد كثيرون.

ولكن التاريخ سيحتفظ بالسؤال من طرح سحب الثقة من رئيس البرلمان والإجابة واحدة حزب الفاشية وريثة منظومة القمع والقهر عدوة الحرية. وسيوسع الإجابة لمن صوت معها وستسجل الأسماء بالحبر الصيني.

مكتوب بالحبر الصيني في كراسات التاريخ أن القمع مهزوم حتماً أمام الحرية. وأن الحرية لا تتراجع إلا لتقوم أقوى وتتقدم. وفي مناخات الحرية يندثر من وقف مع الفاشية وزغرد لمكاسبها.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً