تابعنا
بإغلاقها صناديق الانتخابات الرئاسية، تتجه تونس إلى مرحلة جديدة من تاريخ تحولها الديمقراطي. فبعد ثورتها على الاستبداد بهروب الرئيس المخلوع بن علي، تواصل ثورتها ولكن هذه المرة على الفساد عندما أقصت نبيل القروي.

سقطت كل السرديات التي بنى عليها المرشح الرئاسي نبيل القروي حملته الانتخابية وجاء رد الشعب التونسي في شكل انتفاضة الصناديق التي أهدت فوزاً ساحقاً لمنافسه قيس سعيد الذي سيكون ساكن قرطاج القادم، بنسبة مئوية تجاوزت 70% لفائدته وبتصويت شبابي ناهز 90%.

فلم تنجح سردية التخويف من شبح الفوضى أو تغول النهضة واستفرادها بالحكم. تماماً كما لم يفلح التعويل على مفردات الحداثة وتصوير هذا المرشح حارساً لها في أن توجه الرأي العام وتؤثر في اختياره الحر.

وفي مشهد لافت التفّ التونسيون حول أستاذ القانون الدستوري معلنين بذلك انحيازهم لثقافة القانون ولدولة المؤسسات ورفضهم كل أشكال الفساد. تماماً كما انتفضوا ضد الاستبداد في ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 .

وكأن هذه الانتخابات الرئاسية بمثابة استفتاء على السيد قيس سعيد وليست منافسة بينه وبين القروي بخاصة بالنظر إلى الفارق الشاسع بينهما من حيث عدد الأصوات المتحصل عليها.

وبهذا دشن التونسيون مرحلة جديدة من تاريخهم وهم يقطعون بشكل نهائي تقريباً مع المنظومة السياسية التي مارست الحكم منذ عقود وهم يمنحون ثقتهم لرجل لم يسبق له أن اقترب من السلطة.

وهم بذلك يواصلون أسلوب الاقتراع العقابي للمنظومة السياسية التي حكمت طوال عقود من الزمن والتي همّشت فئات كثيرة من المجتمع التونسي مراهنين على قوة الشعب وإرادته بدل سطوة الدولة.

وبهذا المعنى يمكن القول إن عموم الشعب التونسي والشباب تحديداً قد انحاز بذلك إلى الموقف والعنوان القيمي للحكم، عبر اختيار رئيس عُرفت عنه النزاهة ونظافة اليد والجدية. فالتونسيون وضعوا رجلاً في القصر ووهبوه منصب الرئيس لدواعي أخلاقية ومبدئية بالأساس .

وكما كان البون شاسعاً في أداء المرشحين في المناظرة التي تبين من خلالها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وبدا واضحاً أن أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد قد تفوق على منافسه الذي بدا ضعيف الحجة ومرتبكاً وفاقداً للرؤية والتصور والعمق الفكري والثقافي.

وفي تطور لافت تطورت نسبة المشاركة في التصويت بشكل كبير على عكس ما كان متوقعاً أن يصاب الناخب التونسي بالإجهاد والإعياء بعد الدور الأول من الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية كذلك. ولكن الحماس الكبير كذّب هذه التوقعات.

والثابت أن تونس خرجت منتصرة من هذه المعركة وهي التي تعيش كل صعوبات الانتقال الديمقراطي بخاصة على مستويات الاحتقان الاجتماعي والأزمة الاقتصادية. وولجت نادي الديمقراطيات على الرغم من كل ملامح التعثر والعوائق المرتقبة.

هكذا حدث الحسم في الديمقراطية التونسية الناشئة واختار التونسيون وعن جدارة رجل القانون قيس سعيد ليكون رئيسهم القادم، ولائتمانه على التجربة الديمقراطية، فعلى الرغم من محدودية صلاحيات الرئيس فإن مكانته الاعتبارية والرمزية مهمة جداً.

وقد كان واضحاً في أذهانهم وهم يتوجهون إلى صناديق الاقتراع أن الاختيار سيقع على السيد قيس سعيد لما يتوفر لديه من مقومات شخصية، كالاستقامة والفصاحة والنظافة والنزاهة والنأي عن تشويه الخصوم. وظل على احترامه لمنافسيه وكان متعففاً في الظهور الإعلامي كتعففه وزهده في مصاريف حملته الانتخابية.

ولعل هذا ما جعل انحياز مجمل المقترعين له انحيازاً قيمياً بالأساس دون اعتبار للولاءات الجهوية التي كانت لاعباً أساسياً في الدور الأول وفي انتخابات 2014.

وقد رسخ التونسيون ابتداء من الآن منطق أو ثقافة التغيير عبر الصناديق وقطعوا بشكل نهائي مع كل مظاهر السلطوية والاستبداد.

ولا شك في أن المتابع للمشهد السياسي التونسي طوال السنوات الماضية عرف حالة صخب كبير تجلت في المنابر الإعلامية التي طغى عليها الضجيج الأجوف، وانبرى جل الفاعلين السياسيين يتنابزون بالألقاب من خلال حملات تشويه وتبخيس لأدوار بعضهم مع حالة من تضخم الذات وتورم الأنا، وهو ما جعل المواطن التونسي ينفر من هذه المنابر وينفر بالتالي من السياسي على النمط السائد. ولذلك انحاز إلى الرصانة والهدوء ورفعة الأخلاق كما تتجلى في شخصية الأستاذ قيس سعيد.

فهو بمثابة القدوة والنموذج المثالي الذي كان مفقوداً في المشهد التونسي، التي تجسدت من خلال المجتمع الافتراضي. وجرى اختزالها في شخصية رجل القانون الذي يحتاجونه لإرساء دعائم دولة القانون والمؤسسات في الجمهورية الثانية بغض الطرف عن تفاصيل برنامجه الانتخابي وما يقترحه على التونسيين.

ومن المعلوم أن في تونس كانت السلطة دوماً متمركزة في جهة الساحل وفي العاصمة. وهذا ما يفسر تمتع هذه الأقاليم بالتنمية الشاملة وتتوفر فيه سبل الرفاهية والعيش الكريم على عكس الشمال الغربي والوسط الغربي والجنوب التي تعد أقاليم مهمشة ومحرومة منذ بناء الدولة الوطنية حتى اليوم. ويذكر أن شرارة الثورة التونسية انطلقت منها كما سقط العديد من أبنائها شهداء، وكانت دوماً تنشد الحرية والكرامة والتنمية العادلة.

وبذلك تنتخب تونس رئيسها السابع وتنخرط في مرحلة جديدة. قطعاً لن تكون الطريق فيها ممهدة أمام الرئيس الجديد الذي تنتظره ملفات حارقة وعاجلة اليوم، وأهمها الانتظارات الشاهقة والآمال الكبرى التي علقها عليه عموم التونسيين الذين انتخبوه بهذه النسبة المرتفعة وبخاصة من الشباب الذي عاقب من خلال التصويت له النسق السياسي بأكمله وعانق أشواق الحرية والكرامة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً