تابعنا
شهد العالم مؤخَّراً اندلاع احتجاجات شعبية واسعة النطاق في عديد من الدول، موجهة -على الرغم من كل تبايناتها- ضدّ الممارسات الاقتصادية على وجه التحديد وتداعياتها الاجتماعية.

كأن الرسالة المزدوجة هنا، هي أن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية لم تترك بقعة من الأرض خارج سطوتها، وأن الشعوب في كل مكان قد طورَت وعياً يحرض على مقاومة عالَمية. مِن ثَم فإن الأحداث المحلية لن تكون سوى جزء لا يتجزأ من العالَمية، مِما يجعل عولمة المقاومة شرطاً ضروريّاً لتصحيح عواقب العولمة النيوليبرالية.

يرتبط مصطلح العولمة بآليات إعادة هيكلة الاقتصاد العالَمي. تفرض هذه الآليات على الحكومات الوطنية أنظمة وقوانين رأس المال العالَمي بطريقة ترغمها على التركز على السياسات الاقتصادية في عملية صنع القرارات الوطنية. أما أبرز العواقب هنا فهي اعتبار أن النيوليبرالية -وهو الاسم الذي يطلق على نسخة من النظرية السياسية الليبرالية التي تهيمن حاليّاً على خطاب العولمة- هي "اللعبة الوحيدة"،وَفْقاً لتصورات مقبولة على نطاق واسع يتم الترويج لها في وسائل الإعلام الرئيسية في جميع أنحاء العالَم. تعارض العقلية النيوليبرالية نفقات القطاع العام المخصصة للرعاية والضمان الاجتماعي، وخلق فرص العمل، وحماية البيئة، والصحة، والتعليم، وحتى التخفيف من حدة الفقر. وعلى الرغم من أن هذه النفقات راسخة في الاقتصاديات الوطنية ويصعب تقليصها بسبب العقبات القانونية وردود فعل المواطنين، فضلاً عن درجات متفاوتة من المسؤولية والمساءلة الانتخابية في الديمقراطيات الدستورية، فإن المد السياسي يسير قدماً في الاتجاه النيوليبرالي، وسوف يواصل ذلك ما دام بمقدوره إقناع الشعوب بتناول جرعات التقشف دون ردَّات فعل قوية. بهذه الطريقة تكون العولمة مرادفاً لمأسسة وانتشار النيوليبرالية.

يؤكّد مؤيدو العولمة النيوليبرالية أنها تؤدي إلى مزيد من الحرية وأن تحرير التجارة وإلغاء القيود التنظيمية سيحسن الظروف المعيشية في جميع أنحاء العالَم. تفترض حججهم أن خصخصة معظم السلع والخدمات، والسيطرة على التضخُّم، وتخصيص الاقتصادات الوطنية يخلق فرص عمل ويعزز الرخاء الشامل، الأمر الذي تحقق للبعض في "الشمال العالَمي" حيث الوفرة الاقتصادية والاستقرار السياسي.

ومع ذلك، من الصعب إنكار أن العولمة النيوليبرالية قد أدخلت "الجنوب العالَمي" حقبة جديدة من الاستعمار والتبعية الاقتصادية وتسببت في زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتكثيف الانقسامات في العمل والعمالة، وانعدام الأمن الاقتصادي حتى بالنسبة إلى الطبقات المتوسطة الجديدة.

تشجع العولمة النيوليبرالية التجارة الحرة بلا قيود أو محاسبة، وتشجب تنظيمات وقيود الدولة القومية، وتميل إلى تفضيل المصالح الربحية للشركات العالَمية العابرة للقوميات على مصالح العمال المحليين. وتحرِّض الآيديولوجيا النيوليبرالية على إعادة هيكلة العلاقات الاجتماعية وَفْقاً لمطالب الرأسمالية العالَمية غير المقيَّدة. بعبارات أخرى، تطبق النيوليبرالية المنطق الاقتصادي أبعد من المجالات الاقتصادية، وتتعامل مع العلاقات الاجتماعية كما تفعل بالأسواق، حين تعزّز نفعية الإنسان وميله الغريزي إلى المنافسة في سبيل تحصيل ربحٍ اقتصاديّ.

تهدّد رأسمالية السوق غير المقيدة الديمقراطية لأن الفاعلين الاقتصاديين الذين تحركهم المصلحة الذاتية ليس لديهم أي حافز لأخذ مصلحة الآخرين في الاعتبار، بل، وعلى العكس من ذلك، لديهم حوافز قوية لتجاهل مصلحة الآخرين إذا كان ذلك يحقّق لهم مزيداً من المكاسب. ومن خلال تفضيل مصالحها الاقتصادية على مصالح الآخرين، تهمل الآيديولوجيا النيوليبرالية الاهتمامات المدنية والاجتماعية والبيئية. على هذا النحو، لن تُسهِّل النيوليبرالية الديمقراطيةَ التشاركية المستنيرة بإحساس قوي بالعدالة الاجتماعية.

وتبعا لذلك، فقد تسبب منطق العولمة النيوليبرالية في تفاقم ظواهر مثل عمالة الأطفال وتأنيث الفقر وتجارة الأعضاء والسلاح والتلوث البيئي والاحتباس الحراري وخصخصة المشاعات وزيادة نسب الأمية والظلم الاجتماعي والاستهلاك الفاحش والإرهاب ومأسسة الفساد، والحكومات الشمولية، والعنصرية وصعود أحزاب اليمين المتطرف، في جميع أنحاء العالَم.

وهكذا فقد أنتجت عمليات العولمة قمعاً مفرطاً عالَميّاً لم يستثنِ مكاناً في العالَم، حتى مراكز النيوليبرالية المتقدمة حيث العاملون والعاملات من المواطنين الأقلّ حظّاً والمهاجرين، في الشركات والمصانع وفي الصناعات الإلكترونية المتقدمة وفي الخدمات المنزلية والصحية بأجور زهيدة وظروف عمل مُهِينة، فضلاً عن سكان العالَم الثالث (أو ما بات يُعرَف بعالَم الأغلبية) بطبيعة الحال.

يشكّل هؤلاء جموع المقموعين في العالَم: أي الطبقة العاملة العالَمية المعاصرة. تثير عمليات العولمة كثيراً من السخط بسبب أن مؤسساتها مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظَّمة التجارة العالَمية ومنظمة العمل الدولية معزولة إلى حد كبير عن الضغوط الديمقراطية، عدا عن أن الدول الأعضاء الأصغر تفتقر عادةً إلى القدرة على تحدِّي الدول الأكبر والأكثر نفوذاً.

تكلّف هذه المؤسسات البيروقراطيين وضع سياسات تتأثر إلى حد كبير بجماعات الضغط الرأسمالية ولا تخضع لوسائل الإعلام والرقابة العامة. تدّعي هذه المؤسسات أنها تسير وَفْقاً للإجماع الاقتصادي والتقييمات المحايدة بشأن ما هو أفضل للاقتصاد العالَمي، إلا أنها في الواقع تصدّر مجموعة من الافتراضات الآيديولوجية التي لا تُفحَص بشكل نقدي في كثير من الأحيان، خصوصاً في ما يتعلق بالسياقات المحلية وخصوصية كل قُطر على حدة.

تمثِّل مؤسسات العولمة النيوليبرالية هذه عملية العولمة من الأعلىالتي تسعى من خلالها القوة العالَمية للحفاظ على سيطرتها وتوسيع نطاقها من أعلى إلى أسفل. ولحسن الحظ لم تنتهِ قصة العولمة عند هيمنة النيوليبرالية، ففي مقابل العولمة من الأعلى هناك العولمة من الأسفل، وهي هذه التحركات والاحتجاجات الاجتماعية العالَمية التي تواجه إفرازات النيوليبرالية المحلية والعالَمية وتقاوم شمولية السُلْطة وتفضيلات مؤسساتها الاقتصادية.

تميل العولمة من الأعلى نحو التجانس والوحدة، ومن البديهي إذاً أن تميل العولمة من الأسفل نحو عدم التجانس والتنوع، وحتى التوتُر والتناقض. يسلط هذا التباين الضوء على الفرق الأساسي بين السياسات الهرمية من أعلى إلى أسفل والسياسات التشاركية من الأسفل إلى الأعلى التي تميِّز التحركات والاحتجاجات المعاصرة ضدّ العولمة النيوليبرالية من لبنان إلى هونغ كونغ مروراً بإيران والعراق وتشيلي وفرنسا وإسبانيا وغيرها من الدول. تسعى هذه التحركات، حتى اللحظة، لإخضاع سياسات الحكومات للمزيد من الإجراءات التي تضمن الديمقراطية والشفافية والمساءلة والعدالة الاجتماعية والمراقبة ومكافحة الفساد والحفاظ على البيئة وإصلاح القضاء وفصل السلطات وتأخذ مصالح الشعوب، لا النخب الرأسمالية المحلية والعالَمية، بعين الاعتبار.

يمكننا أيضاً أن نتوقع مطالبات أكثر راديكالية إذا ما واصلت الحكومات المحلية المتحالفة مع مراكز النيوليبرالية العالَمية سياسات التحايل والتجاهل والمماطلة وتفضيل ارتباطاتها ومصالح نخبها الاقتصادية على مصالح واحتياجات شعوبها.

تعني هذه التحركات، أيّاً كانت نتائجها، أن هناك ما يدعو للتفاؤل بشأن الآثار طويلة الأمد لظاهرة العولمة النيوليبرالية. فعلى الرغم من كل ممارسات الحكومات والشركات العابرة للقوميات، فإن عملية العولمة الرأسمالية الواسعة النطاق أوجدت زخماً واسع النطاق أيضاً يغذي مقاومتها.

ففي كل محاولة جديدة لتسويق الهواتف الذكية أو توصيل الإنترنت لمنطقة نائية أو تقليل تكاليف السفر الجوي في البلدان الأقلّ نموّاً، وفي كل محاولة من أرباب العمل في مراكز النيوليبرالية العالَمية في تشغيل أفراد وجماعات من العمالة المهاجرة الرخيصة سهلة الانقياد تتعزز عمليات المقاومة وردود الفعل. الأفراد هنا ليسوا مجرد "عملاء" أو "عُمَّال"، ولكنهم ذاتيات عالَمية جديدة أنشأها خطاب العولمة من أعلى وخطاب العولمة من أسفل، معاً. يكتسب هؤلاء الأفراد قدرات متزايدة على التفاعل بشكل خلاق مع المواقف الجديدة التي يجدون أنفسهم بها، ما يعني أيضاً رفع الوعي ومزيداً من القدرة على الرفض والمقاومة والتأثير.

قد تعتقد مؤسسات العولمة النيوليبرالية أن تأثير هذه التحركات المتصاعدة ضعيف جدّاً بحيث لا يشكِّل تحدِّياً كبيراً للوضع الراهن وأن مرونة الرأسمالية العالية قادرة على استيعاب أي احتجاج أو معارضة، ولكن الواقع اليوم يقول إن معظم النار من مستصغر الشرر، وإن النمر إن غادر قفصه فربما لا فائدة تُذكر من إغلاقه بعده.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً