جسر باب المغاربة وفي الخلفية قبة الصخرة (Others)
تابعنا

لمن لا يعلم أصل الموضوع، فإن باب المغاربة هو البوابة الجنوبية الغربية للمسجد الأقصى المبارك، وهو الباب الوحيد، بين أبواب المسجد، الذي تسيطر سلطات الاحتلال على مفاتيحه وتفتحه لاقتحامات المتطرفين ودخول غير المسلمين حصراً إلى المسجد الأقصى المبارك.

ويمنع الاحتلال المسلمين من دخول المسجد الأقصى عبره تماماً، باستثناء الذين يدخلون المسجد بالتنسيق مع سلطات الاحتلال، كما في حالة الوفود التطبيعية العربية التي جاءت من الإمارات والبحرين عشية التوقيع على "اتفاق أبراهام"، وبعض الشخصيات العربية العامة التي دخلت بالتنسيق مع سلطات الاحتلال في حالات محدودة. وكان هذا الباب قد أثار قضيةً عام 2004 عندما انهارت تلة باب المغاربة المؤدية إلى الباب بفعل الحفريات الإسرائيلية في المنطقة، وقامت سلطات الاحتلال على إثر ذلك ببناء جسر خشبي مؤقت يؤدي إلى الباب من ساحة البراق.

وفي عام 2007 أثارت الحكومة الإسرائيلية زوبعة جديدةً عندما أعلنت عن رغبتها في بناء جسر خرساني مسلح بدلاً من الجسر الخشبي المؤقت، ممَّا أثار الرأي العام العالمي، واضطرت إسرائيل في ذلك الوقت إلى وقف الخطة بعد ضغوط شديدة قام بها الأردن وتركيا في الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو.

الجديد في هذا الموضوع حدث عندما أثارت منظمة يمينية متطرفة تدعى "مؤسسة تراث الحائط الغربي" في شهر يونيو/حزيران الماضي قضيةً احتمالية انهيار الجسر الخشبي المؤقت. حيث نشرت هذه المنظمة وثيقة أعدها أحد مهندسيها، حذرت فيها من انهيار هذا الجسر الخشبي، وطالبت ببناء جسر فولاذي بدلاً منه. الأمر الذي أثار نقاشاً حاداً في الأوساط الإسرائيلية الرسمية بسبب تخوفها من تبعات هكذا خطوة، خاصة أنها جاءت بعد أسابيع قليلة من أحداث 28 رمضان والمعركة مع غزة.

وقررت حكومة بينيت عدم الموافقة على فكرة الجسر الفولاذي، وإنما الاكتفاء بتحديث واستبدال العوارض الخشبية التالفة، ممَّا أدى إلى رفع الموضوع إلى المحكمة الإسرائيلية العليا بالتماس قدمته تلك المنظمة المتطرفة نهاية الشهر الماضي، لإجبار حكومة بينيت على إعادة بناء الجسر بالكامل من الفولاذ بدلاً من إبقائه خشبياً ومؤقتاً كما هو عليه منذ 2004، ولا زال هذا الأمر حتى هذه اللحظة قيد الجدل في الداخل الإسرائيلي.

حيثيات هذه القضية للأسف غائبة عن الإعلام العربي بالرغم من حساسيتها الشديدة، لكن نظرةً سريعةً إلى الأحداث سالفة الذكر تبين أن هناك تغيراً كبيراً في طريقة التعاطي مع قضية المسجد الأقصى المبارك، سواء على المستوى العربي الرسمي أو المستوى الإسرائيلي.

ففكرة بناء الجسر الخرساني عام 2007 كانت كفيلةً بإثارة حساسية المستوى السياسي العربي ورفع الموضوع إلى الأمم المتحدة، بينما نجد القضية اليوم لا تتجاوز أروقة الحكم والقضاء الإسرائيليين. هذا الأمر إن دل فإنما يدل على نقطتين:

الأولى: أن مستوى الاهتمام العربي الرسمي بقضية المسجد الأقصى المبارك في تناقص واضح بسبب تغير المزاج الرسمي في التعاطي مع القضية الفلسطينية ككل، كما نلاحظ منذ الإعلان عن اتفاق أبراهام مع إسرائيل وموجة التطبيع الرسمي العربي التي اجتاحت الأنظمة العربية بشكل بعيد حتى عن المنطق.

وهذا يعني أن الأنظمة الرسمية العربية أبعدت نفسها كثيراً عن القضية الفلسطينية، ولم تعد القدس أو المسجد الأقصى ضمن سلم أولوياتها. وهو ما يعد فشلاً جديداً للأنظمة الرسمية العربية في تعاطيها مع هذه القضية لدرجة أن إسرائيل لم تعد تحسب حساب خطواتها أو احتجاجاتها، الغائبة أصلاً، في الأروقة الدولية.

الثاني: أن الاحتلال الإسرائيلي بات يحسب حساب المقاومة الفلسطينية والمزاج الشعبي الفلسطيني فقط في دراسته لأية خطوات يقوم بها في المسجد الأقصى المبارك، وهذا ما يؤكد أهمية الفعل الشعبي في الأراضي الفلسطينية في تشكيل ردع إسرائيلي ذاتي عن تجاوز خطوط معينة في العلاقة مع المسجد الأقصى المبارك، على الأقل في المدى المنظور.

وهذا ما يعد نجاحاً للردع الجماهيري في الأراضي الفلسطينية، حيث تم نقل الصراعات والجدل بخصوص كل ما يخص المسجد الأقصى المبارك إلى قلب النظام الإسرائيلي، وأصبح التخوف الإسرائيلي من الاضطرابات وانفلات الأوضاع من يده على الأرض هو الضامن الأبرز لتخفيف اندفاعه في محاولات تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك وسط حالة الهزال العربي الرسمي.

على أن من الضروري هنا أن نقول إن التعويل على الردع الذاتي الإسرائيلي لا يجوز أن يكون هو الضامن الوحيد لعدم تجاوز الاحتلال خطوط المواجهة في المسجد الأقصى، ذلك أن الحسابات الإسرائيلية أثبتت أنها قد تخطئ كثيراً في تقديرها لسير الأمور في القدس أو بقية المناطق الفلسطينية، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى حالة الغرور السياسي التي تنتاب قادة الاحتلال كلما رأوا انحداراً أكبر في تعاطي المستوى الرسمي العربي مع القضية الفلسطينية، وصمتاً شعبياً أخطأ الاحتلال الإسرائيلي قراءته كثيراً في السنوات الماضية.

لذلك، فإن بطء تقدم الاحتلال، وليس توقفه، داخل المسجد الأقصى المبارك على المدى المنظور هو المتوقع. ذلك أنه ليس من مصلحة الاحتلال أن تتوقف مشاريعه في المسجد الأقصى، وقضية جسر باب المغاربة واحدة من هذه القضايا التي يتوقع أن يلجأ الاحتلال حالياً إلى تأجيلها قليلاً عبر الاكتفاء بصيانة الجسر الخشبي والحرص على عدم تغيير شكله. علماً بأن الأصل أن تكون هذه القضية فرصةً جديدةً لإجبار الاحتلال على التراجع أكثر عبر منعه حتى من التعامل مع جسر باب المغاربة على أنه حق إسرائيلي خالص، أو أن لديه الحرية في التصرف فيه وإصلاحه أو تغييره. فالاحتلال كله في المسجد الأقصى المبارك وفي القدس غير شرعي، ولا ينبغي الصمت على أي حركةٍ يقوم بها في المكان مهما كانت، وهي فرصة للمؤسسات الشعبية والسياسية الفلسطينية والعربية لإزعاج الاحتلال مرةً أخرى وإجباره على التراجع، فهل يستغل الجانب العربي والفلسطيني هذه الفرصة أم يضيعها؟


جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً