تابعنا
جمهورية الضباط كان خيارها واضحاً وهو التوجه الفاشي والسعي لإخضاع المجتمع والهيمنة عليه عبر مؤسسات الدولة لضمان استيعاب خلافاته للنموذج الأول كنتيجة طبيعية لهيمنة العقلية العسكرية التي لا تعرف قيمة التنوع وأنه شيء طبيعي إن لم يكن إيجابياً.

المراقب لمنهجية تعامل السلطة السياسية في مصر مع عدد من الملفات والمشكلات التي تمر بها البلاد، سواء المشكلات المزمنة مثل الأزمة الاقتصادية والإرهاب، أو الآنية مثل وباء كورونا أو سد النهضة، يكتشف أزمة عميقة ليست فقط في كفاءة صنع القرار لديها بل في عقليتها، وعلاقتها مع المجتمع، خصوصاً ما بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، يمكن إيجازها في البيت القائل:

لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ... ولكن أحلام الرجال تضيقُ

أول ملامح ضيق أفق الدولة المصرية في علاقتها بالمجتمع المصري يتمثل في إجابتها على سؤال كيف يمكن إنشاء مجتمع مستقر وفعال في ظل وجود تباينات واختلافات في الرؤى والأيديولوجيات والمصالح داخل هذا المجتمع؟

للمزيد حول الموضوع، يمكنك قراءة:
الاقتصاد المصري .. بين عام مرسي وأعوام السيسي

ويمكن للتبسيط القول بوجود توجهين في هذه المسألة: التوجه الفاشي، وهو السعي لإخضاع المجتمع والهيمنة عليه عبر مؤسسات الدولة لضمان استيعاب خلافاته، وحشده خلف القيادة لتحقيق الأهداف المشتركة، وهو التوجه الذي عبر عنه موسوليني بشعار"كل شيء داخل الدولة".

والتوجه الثاني وهو الأقرب لليبرالية الذي يؤمن بتحجيم دور الدولة، وتقوية المجتمع وتنظيماته من نقابات وأحزاب، وجمعيات أهلية، وشركات ووسائل إعلام، لاستيعاب مختلف التوجهات والتعبير عن مختلف المصالح ثم انخراط هذه التنظيمات بعضها مع البعض ومع الدولة في تفاوض مستمر عبر المؤسسات الديمقراطية حول نقاط خلافاتها للوصول إلى حلول وسط.

جمهورية الضباط ما بعد الاستقلال كان خيارها واضحاً للنموذج الأول كنتيجة طبيعية لهيمنة العقلية العسكرية التي لا تعرف قيمة التنوع وأنه شيء طبيعي إن لم يكن إيجابياً، ولا تعرف فضيلة السياسة والتفاوض وتعتبرها قلة حزم وتضييعاً للوقت والطاقة، ولذلك عمدت إلى تفكيك مؤسسات المجتمع وإعادة الهيمنة عليها، فالأحزاب جرى حلها ثم أعيدت لاحقاً لا لكي تكون معبِّراً عن تنوع الأيديولوجيات داخل المجتمع ولكن كإحدى أدوات الهيمنة على الطبقة السياسية الهشة وتوظيفها.

والنقابات أصبحت أداة الدولة للهيمنة على الطبقات العاملة بدلاً من أن تكون صوت هذه الطبقات المعبر عنها، ووسائل تشكيل الوعي من إعلام وتعليم ومؤسسات دينية جرت الهيمنة عليها لتعبر عن الفكر والصوت الواحد، وأصبح ظهور أي حزب أو تنظيم مجتمعي أو حتى مفكر أو داعية أو رجل أعمال أو أكاديمي أو إعلامي بمثابة تهديد محتمل يجب أن تتدخل الأجهزة الأمنية إما ليجري استيعابه ويقبل بالخضوع والدوران في فلك الدولة ومؤسساتها، وإما ليجري تحييده وإضعافه بالابتزاز والتضييق.

الغريب أن المفاجأة، ولكنها مفاجأة متوقعة، التي تواجه الدولة المصرية بشكل متكرر هو أنه لماذا لا ينجح المجتمع ويصبح منتجاً بعد حالة الاستقرار التي خلقتها له؟ لماذا هذا التدهور المستمر في فاعليته وكفاءة مؤسساته الإنتاجية والتعليمية والدينية والإعلامية؟ لماذا فقد المجتمع القدرة على إنشاء المبادرات الناجحة وتوليد نخب وقيادات مؤثرة؟

ولا تدرك الدولة بأن قيام أي دولة بخنق المجتمع لا يسمى استقراراً، وأن الإجابة كما ذكر جون ستيوارت هي أن السلطة التي تقزم مواطنيها ستدرك لاحقاً أنها لا يمكنها أن تنجز شيئاً عظيماً بهذا المواطن، على العكس تماماً فإن حالة الضعف المجتمعي هذه لا تقنع الدولة أن عليها أن تترك للمجتمع المجال لكي يتعافى ويسترد فاعليته بل تقنعها أكثر بالهيمنة عليه باعتبار أن مؤسساتها أكثر نظاماً وفاعلية مع ما تدركه من عيوبها، سيراً على المثل القائل الأعور ملك في بلد العميان!

كيف تخلق الدولة ومؤسساتها شرعيتها داخل المجتمع؟ أو بشكل بسيط لماذا وكيف يشعر المواطن أن عليه أن يطيع السلطة ومؤسساتها؟ لماذا يشعر أن عليه أن يلتزم قوانينها ويدفع الضرائب لها وأن يلجأ إلى قضاتها لحل خلافاته وأن يصدق المعلومات الواردة في بياناتها الرسمية وأن يثق في الفتاوى التي تصدرها مؤسساتها الدينية؟ السؤال معقد وهام، وتتداخل في إجابته عدة أفرع من العلوم كعلم الاجتماع والفلسفة والعلوم السياسية، وهذه المشكلة دليل آخر على ضيق أفق الدولة في تعاملها مع المجتمع المصري.

ومن دون الدخول في تفاصيل هذه المسألة، فإن الدولة قد تبني شرعيتها وتفرض الطاعة على مواطنيها إما بإكراه الأمر الواقع وإما بغرس قناعات قيمية أو بدافع المصلحة، وإما بمزيج من هذه الأدوات معاً، بمعنى أن المواطن سيطيع الدولة إما خوفاً من العقوبة وإما نتيجة تنشئته على قيم الانضباط والتزام القانون وإما حين يشعر بالثقة أن التزام قرارات الدولة وقوانينها سيحقق مصلحته.

تحت ذريعة قلب رجل واحد، ارتكبت الدولة المصرية جرائم عدة، مثل القضاء على حيادية المؤسسات واحترافيتها، وتفصيل الدساتير والقوانين، وتسييس القضاء والمؤسسات الدينية، ولم تدرك أن القوانين والمؤسسات لا تنتزع احترامها من المواطنين إلا بنزاهتها واستقلالها، وإذا شعر المواطن بعدم الثقة فيها أو أنها تسعى لمصالح خاصة لا مصلحته هو فلن يكون كافياً أن تفرض احترامها ببطش الشرطة وتغليظ العقوبات أو بالتغني بهيبة الدولة والقضاء الشامخ، وسيصبح شعار "السلطة في خدمة الشعب" أو "الضرائب مصلحتك أولاً" مادة للتندر والسخرية، وسيبحث المواطن عن إجابة فتاواه على المواقع السلفية وليس على صفحة دار الإفتاء المصرية، وسيسارع إلى وكالات الأنباء الأجنبية ليتأكد مما أورده الإعلام الرسمي، وسيعمد إلى أخذ حقه بذراعه أو بالرشى بدلاً من اللجوء إلى منظومة قضائية لا يثق بعدالتها.

كذلك، فيما يخص آلية اتخاذ القرار، فإن سبباً أساسياً في ضيق الأفق الذي أصاب عقل الدولة المصرية بل وربما نخبها السياسية كذلك هوشيوع ثقافة احتقار المنهج الأكاديمي والتخصص بشكل عام، والعلوم الاجتماعية بشكل خاص، واعتبار أن هذه المنهجية ترف ورفاهية لا نملكها وسط الأزمات الراهنة، والاستعاضة عن ذلك بالحلول الإجرائية التنفيذية، التي تكون غالباً جزئية وتسكينية،مع الحزم الإداري العسكري،وحشد المواطنين بشعارات وطنية عبر وسائل عاطفية مبتذلة.

هذا الأمر يتضح فيما يظهرمن الأمننة أو العسكرة المستمرة للملفات السياسية والاقتصادية، كأن يصادر دور وزارة الخارجية مثلاً في القضايا الخارجية أو يوضع تحت إشراف الأجهزة المخابراتية، أو هيمنة المقاربة الأمنية لقضايا مركبة ومتعددة الأبعاد مثل عدم الاستقرار الأمني في سيناء، أو ترويج أهمية الأنشطة الاقتصادية للقوات المسلحة ودورها المحوري"كقاطرة للتنمية".

قد يرى البعض أن حالة الاستقرار التي تحققها بعض النظم السلطوية هو دليل فاعليتها، لكن الديناميكيات التي تتسبب فيها تحت سطح هذا الاستقرار الكاذب، من وهن القوى المجتمعية، ووجود نخبة مبتسرة مقزمة في مختلف المجالات السياسية والدينية والاقتصادية والفكرية، وتآكل شرعية مؤسسات الدولة التي يعبر عنها المواطنون بأشكال عديدة غير مباشرة، علاوة على الفشل المتكرر في حل القضايا المزمنة نتيجة هيمنة العقلية الأحادية لمشكلات بطبيعتها متعددة الأبعاد، كل هذه الديناميكيات السلبية تعمل في صمت داخل جسد المجتمع السياسي، ولا تتكشف غالباً إلا حين تصبح حالته حرجة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً