تابعنا
طورت إيران عبر عقود عدة استراتيجية أمنية تقوم على إنشاء أذرع عسكرية لها في الدول العربية المجاورة لجعل أي حرب عليها ذات تكلفة باهظة، وهو ما مكّن طهران من إتقان الحرب "غير المتماثلة".

كشفت تطورات الأزمة الأمريكية-الإيرانية الراهنة في ظل تصاعد استراتيجية "الضغوط القصوى" التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عن منطق المواجهة وحدود سياسة "حافة الهاوية" وطبيعة وماهية "المعارك المستقبلية" في حال اندلاعها، ومرتكزات الاستراتيجية الإيرانية للأمن القومي التي تقوم على نمط "الحروب اللا متماثلة" بالاعتماد على جيش ظل "الحرس الثوري" الذي يديره "فيلق القدس" المكون من مليشيات شيعية ممتدة جغرافيا ومترابطة، عقدياً ومتنوعة ديمغرافياً، تتبع إيديولوجية "ولاية الفقيه" وتنفذ رؤيته واستراتيجيته.

تمثل المليشيات الشيعية المسلحة التي تتبع ولاية الفقيه الركيزة الأساسية في بنية عقيدة الأمن القومي الإيراني الإقليمية، ذلك أن إيران ليست قوة جبارة في أي من المجالات العسكرية الرئيسية.

في مواجهة التفوق الأمريكي الساحق والحصار الغربي والجفاء الإقليمي عمد الإيرانيون إلى اعتماد عقيدة عسكرية تقوم على مبادئ "الحرب غير المتماثلة".

حسن أبو هنية

في مواجهة التفوق الأمريكي الساحق والحصار الغربي، والجفاء الإقليمي، عمد الإيرانيون إلى اعتماد عقيدة عسكرية تقوم على مبادئ "الحرب غير المتماثلة"، لإحداث الفارق، وهي حروب تعتمد على مجموعة معقدة ومركبة من الاستراتيجيات، تستند إلى تأسيس جيش ظل يعمل كفيلق خارجي مكون من مليشيات عقائدية مسلحة، تتأسس على نموذج "حزب الله" اللبناني.

وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية لا تستطيع هزيمة أمريكا، لكنها تجعل من كلفة أي حرب أمريكية على إيران باهظة وغير مأمونة العواقب.

على مدى عقود من الزمن، غيّرت الجماعات المسلحة الشيعية المشهد الاجتماعي والسياسي والعسكري في الشرق الأوسط، ومع حلول عام 2019، باتت تعمل في العراق ولبنان وسوريا أكثر من 100 جماعة شيعية مختلفة، وأصبحت هذه المليشيات المحركات الرئيسية للنفوذ الإيراني، وهي تتبع "الحرس الثوري" الإيراني.

في عام 1997 انبثق عن "الحرس الثوري" وحدة من القوات الخاصة عُرفت باسم "فيلق القدس"، ونشطت في دعم حلفاء طهران في الخارج. وقد استفاد الحرس الثوري الإيراني من الشرعية الدستورية الممنوحة له وفقاً للمادة 150من الدستور الإيراني التي عدّت الحرس الثوري المسؤول الأول عن حراسة الثورة في وقت الحرب، وأعطته طبيعة تنفيذية في وقت السلم في قطاع الأعمال المدنية والمشروعات الاقتصادية، الأمر الذي أهله ليكون صاحب الكلمة الفصل في شؤون السياسة الخارجية والداخلية.

وتنتشر عمليات الحرس الثوري الإيراني في الدول المتاخمة للحدود الإيرانية والجوار الجغرافي، ويقوم "فيلق القدس" الذي يقوده الجنرال قاسم سليماني منذ عام 1998بالعمليات الخارجية، وقد اتضح حجمه ودوره بصورة لافته بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وإثر اندلاع الثورة السورية عام 2011.

وفقاً لحسابات البنتاغون، تسببت الأسلحة التي زودتها إيران للمليشيات الشيعية بمقتل ما لا يقل عن 608 أمريكيين في العراق بين عامَي 2003 و2011، وتشمل هذه الأسلحة أنظمة تنفرد بها إيران على غرار الصواريخ، والعبوات الناسفة الخارقة، والذخائر المرتجلة المدفوعة بالصواريخ، فضلاً عن القذائف الصاروخية وبنادق القنص من العيار الكبير. وفي حين همدت هذه الاعتداءات بعد عام 2011، إلّا أن المضايقات المدعومة من إيران عادت لاحقاً مع تزايد التوترات مع طهران في ظل إدارة الرئيس ترمب.

تشكل المليشيات الشيعية في العراق اليوم دولة داخل الدولة، حيث يتبلور النفوذ الإيراني في العراق عبر ميليشيا الحشد الشعبي على سبيل المثال، التي تأسست إثر دعوة أصدرها آية الله العظمى علي السيستاني في 13يونيو/حزيران 2014 لمحاربة تنظيم داعش بعد سيطرته على الموصل.

على مدى عقود من الزمن، غيّرت الجماعات المسلحة الشيعية المشهد الاجتماعي والسياسي والعسكري في الشرق الأوسط.

حسن أبو هنية

ولاحقاً تم تأسيس لجنة لـوحدات الحشد الشعبي منبثقة عن مكتب رئيس الوزراء لإضفاء الطابع المؤسساتي على التعبئة الشعبية والطابع الرسمي داخل "قوات الأمن العراقية".

وقد استثمرت إيران فتوى السيستاني لتشكيل جيش رديف للجيش العراقي، وعملت على تنظيمه، والإشراف عليه على الرغم من أن قيادتها الدينية والسياسية لم تكن على اتفاق مع مرجعية النجف بسبب الاختلاف حول نظرية "ولاية الفقيه". وقد أصبح وجود هذه المليشيات قانونياً، بعد إقرار قانون هيئة الحشد الشعبي من مجلس النواب العراقي بالأغلبية في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 وسط مقاطعة نواب تحالف القوى العراقية السني.

تنقسم مليشيات الحشد الشعبي إلى ثلاث مجموعات أساسية: المجموعة الأولى تعلن ولاءها للمرشد الإيراني الأعلى، وتربطها علاقة وثيقة بالحرس الثوري الإيراني، ومنها: مؤسسة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب سيد الشهداء، وكتائب حزب الله العراقية وحركة النجباء.

والمجموعة الثانية تضم المجموعات الموالية للسيد علي السيستاني، ومن بين هذه الجماعات: سرايا العتبة العباسية، وسرايا العتبة العلوية، وسرايا العتبة الحسينية. أما المجموعة الثالثة فتضم الكتائب الموالية للزعيم الشيعي مقتدى الصدر وفي مقدمتها سرايا السلام. وعلى الرغم من أن التيار الصدري في العراق يظهر نوعاً من التمايز عن إيران لكنه يتقارب معها في مواقف عديدة.

بالإجمال، ثمة ما يقرب من 30 مليشيا تنتمي إلى الحشد الشعبي، الذي يبلغ قوامه نحو 125 ألف مقاتل، وتعتبر المليشيات التي تتبع إيران فيه الأقوى والأشد تأثيراً.

على الجانب الآخر في سوريا عمدت إيران منذ اندلاع الأزمة السورية إلى تقديم الدعم لنظام الأسد، وذلك من خلال قيامها بتدريب وتمويل أكثر من 100 ألف مقاتل شيعي، وتوفير أسلحة خفيفة وثقيلة للنظام والميليشيات السورية.

ووفقاً لبعض التقديرات، فقد أنفقت إيران حوالي 16 مليار دولار في سوريا خلال الفترة (2012-2018). وقد ظهر قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني في معارك عديدة وهو يقود المليشيات الشيعية بنفسه، إذ عمد إلى تأسيس شبكة واسعة من المليشيات الشيعية المقاتلة من بلدان عديدة في سوريا.

إن إيران قد أظهرت عقب تصاعد حدة الأزمة مع الولايات المتحدة الكلفة الباهظة لأي حرب محتملة وذلك من خلال تحريك أذرعها المنتشرة في الدول العربية.

حسن أبو هنية

وقد نشر حزب الله اللبناني نحو 8 آلاف مقاتل في سوريا، وساعد الجماعات غير الحكومية التي عرفت باسم المقاومة الإسلامية هناك، كقوات "لواء أبو فضل العباس" المكونة من العراقيين في الغالب التي تنشط حول دمشق.

وقام "فيلق القدس" بتوسيع كوادر اللواء في سوريا بصورة أكثر من خلال مجموعة "عصائب أهل الحق"، ومن بين هذه الجماعات قوات الرضا التي نشرت قوتها في عدد من المحافظات السورية، وفي مقدمتها حمص، وجماعة الغالبون، وسرايا المقاومة الإسلامية في سوريا، التي نشطت في محافظات درعا والقنيطرة، وجماعة لواء الباقر التي تمركزت في حلب، إضافة إلى الجماعة الشيعية الباكستانية "لواء زينبيون" والجماعة الشيعية الأفغانية "لواء فاطميون".

خلاصة القول إن إيران قد أظهرت عقب تصاعد حدة الأزمة مع الولايات المتحدة، والاقتراب من حافة هاوية الحرب الكلفة الباهظة لأي حرب محتملة وذلك من خلال تحريك أذرعها المنتشرة في الدول العربية والتي تشكل جيش الظل الذي تستند عليه في موجهاتها الخارجية.

وإذا كانت الولايات المتحدة وحلفائها تتفوق في الحروب التقليدية بصورة حاسمة، فإن إيران تتمتع بميزة الحروب الهجينة اللا متكافئة، وهي ميزة طورتها إيران خلال العقود الثلاثة الماضية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً