تابعنا
في يوم الجمعة 27 نوفمبر/تشرين الثاني، وبينما كان متظاهرو مدينة الناصرية يستعدون لإحياء الذكرى الأولى لما باتت تعرف بـ"مجزرة جسر الزيتون" التي كانت من أكثر أيام انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019 دموية (قتل فيها أكثر من 30 شخصاً).

وجد هؤلاء المتظاهرون أنفسهم أمام مواجهة جديدة غير متوقّعة أوقعت ما لا يقل عن ثمانية ضحايا وأكثر من خمسين جريحاً. وكان الطرف المهاجم هذه المرّة ليس القوّات الأمنية الحكومية كما في مجزرة الزيتون، وإنما جماعات مسلّحة موالية لرجل الدين مقتدى الصدر.

اتخذت القوات الأمنية الحكومية موقف الحياد وهي ترى الهجوم على "ساحة الحبّوبي" مكان تجمّع متظاهري الناصرية الأساسي، ولم تفعل شيئاً وهي تراقب كيف استخدم أنصار الصدر السيارات والجرّافات الحكومية لإزالة خيم الاعتصام، في محاولة لإنهاء التظاهرات في هذه المدينة التي جرى اعتبارها في التداول الإعلامي العراقي معقل "انتفاضة تشرين" وقلبها النابض، على الرغم من أن ساحات كثيرة أهمها ساحة التحرير في بغداد قرّرت منذ 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إنهاء حالة الاعتصام الدائم الذي دام سنة كاملة. 

الكثيرون فهموا ومنهم ناشطوا مدينة الناصرية أن الهجوم الدامي الجديد جرى بالتنسيق والتواطؤ بين أنصار الصدر والحكومة العراقية، فكلا الطرفين لهما مصلحة بإنهاء ما تبقى من مظاهر الاحتجاج والاعتصام "التشريني". 

فرئيس الحكومة مصطفى الكاظمي يرغب في تحويل اتجاه الاحتجاجات إلى صناديق الاقتراع، وربما يأمل وهو يتهيأ لدخول الانتخابات بحزب جديد أن تصب أصوات المحتجين في صالحه، بغضاً بالأحزاب الأساسية التي خرجت التظاهرات أصلاً للاحتجاج ضد سوء إدارتها. 

أما الصدر فهو يشعر بالتهديد من المناخ الذي أشاعته احتجاجات تشرين، وتحديداً ما يتعلق بهتك الخطوط الحمر التي كانت موجودة سابقاً وكانت تمنع مَسَّهُ أو التعدي عليه أو انتقاده بشكل صريح ومباشر. والصدر يترجم هذا الهتك كتهديد لشرعيته السياسية وإشارة مبكرة إلى انخفاض شعبيته، وربما سيأكل ذلك في أي انتخابات قادمة من عدد مقاعد كتلته السياسية. 

إنها كما تبدو للمراقب المحايد تطورات جديدة في ساحة صراع مفتوحة وغير متكافئة بين محتجي تشرين وأنصار الصدر منذ مطلع هذا العام، باتت تشغل جزءاً كبيراً من وقت التغطيات الإعلامية والبرامج الحوارية في القنوات الفضائية العراقية، وتشغل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي على مدار الساعة، خصوصاً أن السيد الصدر نفسه باسمه الشخصي وباسم آخر مستعار هو "صالح محمد العراقي" يلقي كلّ يوم خطباً في هذه المواجهة الخطابية والكلامية المفتوحة، من خلال تغريدات أو وصايا أو انتقادات مباشرة إلى "التشرينيين"، أو توجيهات لأتباعه وأنصاره لا تخلو من التحريض، كما في تغريدة وصفت ما جرى في ساحة الحبّوبي من جريمة مروّعة بأنه "تنظيف" للساحة. في المقابل لا يوفّر التشرينيون وقتاً للردّ عليه، إن كان بالتعليق على منشوراته أو بالنشر بشكل عام على حساباتهم الشخصية، بمستويات متباينة من نبرة الانتقاد الهادئ إلى الشتائم والسخرية. 

لكن ساحة المواجهة هذه التي تشكّلت تدريجياً منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2019 لا تحوي طرفين فحسب وإنما أربعة على الأقل. 

الطرف الثالث هنا هو الكيانات السياسية المشكّلة لكتلة "الفتح" البرلمانية التي تملك أذرعاً عسكرية موالية لإيران، وتتقاسم مع كتلة الصدر "سائرون" الحصّة الأبرز في حكومتَي عبد المهدي المُقالة والكاظمي الحالية. 

هذه الكتلة التي كانت أبرز الخاسرين من اندلاع الاحتجاجات، تنظر بحذر إلى المواجهة بين الصدر و"التشرينيين"، وإذ يبدو بعض أقطابها في موقف النقد لتشرين، والمنصات الإعلامية المرتبطة بهذه الكتلة أطلقت ماكينة تشويه هادرة ألصقت شتّى التهم بالحركة الاحتجاجية، من العمالة للأمريكان والانحلال والمروق من الدين، فإنها مع ذلك لا تبدو متحمّسة لتأييد الصدر، فهي تراه غريماً وخصماً، وستستفيد من ضعفه وتراجع شعبيته في كلّ الأحوال. 

الطرف الرابع يمثّله الكاظمي ومؤيّدوه، الذي تشير بعض التصريحات من مقربين له إلى أنه ينوي دخول الانتخابات القادمة بحزب جديد اسمه "المرحلة"، وهو يعوّل على الاستفادة من الزخم الاحتجاجي في كسب مقاعد بما يجعله رقماً مهماً في البرلمان القادم، وهذا لن يتحقّق إلا بتحويل احتجاجات تشرين إلى حراك سياسي انتخابي، والتشجيع على المشاركة بالانتخابات وعدم مقاطعتها. 

الكاظمي على ما يبدو يرغب في أن ينشئ تحالفاً برلمانياً بين كتلته "التشرينية" المفترضة وتيار الصدر، بما يساعد على إزاحة الاعتماد على أي تحالف مع الكيانات السياسية المقرّبة من إيران أو تقليلها. 

وهو يرغب بسبب ذلك في أن يبقى الصدر ضمن "الصفّ التشريني" ولا يندفع أكثر للتقرّب من حلفاء إيران. بافتراض أن المشكلة الأساسية للمحتجين كانت مع هيمنة المليشيات المرتبطة بإيران، وأن الكثير من أنصار الصدر كانوا مشاركين أصلاً في الحراك الاحتجاجي، و"سرايا السلام" وهي المليشيا الأساسية للصدر ساهمت في الأشهر الأولى من احتجاجات تشرين بحماية المتظاهرين من انتقام المليشيات "الولائية" المرتبطة بإيران. 

لكن حادثة مقتل الجنرال قاسم سليماني والقيادي في الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في استهداف أمريكي لهما قرب مطار بغداد مطلع هذا العام قلبت الطاولة وخلطت الأوراق كلّها، وجعلت الصدر يغيّر موقفه من حماية المتظاهرين أو تأييدهم ضمنياً إلى الانسحاب من الساحات ثم اتخاذ موقف المعادي للاحتجاجات، وترافق كلّ ذلك مع احتكاكات سابقة بين المحتجين وأنصار الصدر في الساحات، ثم صار الصدر يتبنّى خطاب "الولائيين" المقرّبين من إيران وقاموس شتائمهم لاحتجاجات تشرين. ثم تطوّر الاحتكاك بين الطرفين إلى سقوط ضحايا من المحتجين على أيدي أنصار الصدر، كما في حادثة ساحة الصدرين في النجف مطلع فبراير/شباط من هذا العام، التي سبّبت موجة عارمة من الانتقاد للصدريين بين صفوف المتظاهرين. 

الكاظمي فيما يبدو يعوّل وفريقه السياسي على إمكانية رأب هذا الصدع بين الطرفين، وأن "المصلحة العليا" [التي قد تعني: مواجهة النفوذ الإيراني] يمكنها أن تداوي الجراح وتُنسي الآلام، لكن الصدر نفسه لا يمنح الكاظمي أي فرصة لإنجاح هذه الفرضية، ومواجهة ساحة الحبوبي الدامية الأخيرة هي خير دليل على استحالة تبريد الأجواء بين الطرفين، على الأقل في هذه المرحلة. 

المفتاح السحري كما يؤكد بعض المقرّبين من فريق الكاظمي هو ربما في توقّف التشرينيين عن استهداف مقتدى الصدر باسمه وشخصه، لإيصال "ثورة تشرين" بسلام وبلا خسائر أكثر في الأرواح إلى صناديق الانتخابات المبكّرة. فالموضوع هنا حساسية شخصية أكثر من كونه موقفاً سياسياً أو عقائدياً مضاداً من الصدر للاحتجاجات. 

لكن التشرينيين أنفسهم ليسوا جهة واحدة أو رأياً واحداً، وجزءٌ مهم منهم لا يزال يشكّ في إمكانية إجراء انتخابات سليمة أصلاً. وجزء آخر أكبر يرى التيار الصدري لاعباً سياسياً أساسياً في كلّ الحكومات التي تشكّلت في العراق ما بعد 2003، وهو شريك في كل الفشل والإخفاق السياسي والاقتصادي، ويتحمّل مسؤولية مشابهة لمسؤولية الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى، وعليه أن يتحمّل النقد ويحاول الإصلاح من موقعه في السلطة، لا أن يحاول الهيمنة على الحراك الاحتجاجي أو يدَّعي الوصاية عليه أو يضع قواعد للاحتجاج "الصحيح"، فخطاب الاحتجاج موجّه إليه ضمناً مع بقية الأطراف السياسية الممسكة بالسلطة، ومن غير المنطقي أن يكون في كلا الموقعين بالوقت نفسه: في السلطة وساحات الاحتجاج على السلطة. 

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRT عربي .

TRT عربي