تابعنا
لا منتصر تقريباً في نزاعات المشهد العربي الداخلي في سنة 2019 أيضاً، وتوشك عشرية الاضطرابات والحرائق والأزمات على الانتهاء دون أن يحقِّق أي من الأطراف ظفراً مؤكداً وإن تعدّدت الهزائم والانكسارات وشواهد الاستنزاف ووقائع الإيلام.

اتّضح أيضاً أنّ صعود قوى الاستبداد لم يضمن لها استقراراً هانئاً أو طمأنينة بشأن المستقبل، فالأطراف جميعاً تعيش قلقاً وجودياً يتقلّص معه مدى الرؤية وتنحسر فرص الاستشراف مع المفاجآت المتزايدة في الإقليم والعالم.

حتى النظام السوري الذي تمدّدت رقعة الأرض التي يسيطر عليها نظرياً؛ فإنه يبدو واجهة لتدخلات خارجية تمسك بقرار الميدان وقد تفرض عليه وعلى غيره خيارات "الحلّ السياسي" أيضاً. وتبدو ليبيا عنواناً لحرب مديدة لا رابح فيها حتى حينه.

ويتجلّى الميدان اليمني شاهداً على تورّط الأطراف الداخلية والإقليمية في حرب مزمنة وصراع مديد بلا مخارج مرئية. نجح الحوثيون في اختبار البقاء على شطر من الأرض وصعّدوا هجماتهم على أهداف حيوية سعودية، لكنهم يواصلون حكمهم المسلّح فوق أنقاض دولة معزولة عن العالم.

تبدو اليمن عنواناً لبعض الاصطفافات الجارية في الإقليم أيضاً، فالإمارات تملّصت بين عشية وضحاها من "التحالف العربي"، وأبقت على أذرع مسلّحة تدور في فلكها لترتيب مستقبل الجنوب ومرافئه الاستراتيجية، وجاء ذلك إيذاناً بانفتاح الخطوط بين أبوظبي وطهران على نحو غير معهود. تيقّنت الحكومة اليمنية التي تحمل لواء الشرعية أنها تخسر الشمال والجنوب معاً، وتفقد ما تبقى لها من السيادة على قرارها بعد خسران الأرض، وأن تعويلها على "التحالف" كان رهاناً خاسراً.

وإن بدت اليمن مطلع سنة 2019 بؤرة استنزاف للسعودية؛ فإنّ الحالة تفاقمت لتصير بلاد الجبال الوعرة والقتال العنيد بوابة استهداف للعمق السعودي ومرافقه الاستراتيجية؛ مثل القواعد العسكرية والمطارات والمرافق النفطية التي اتّضح أنها مكشوفة لضربات متعاقبة حملت رسائل إيرانية من اليمن أو غيره؛ تتجاوز الرياض إلى واشنطن. 

ومن واشنطن العاصمة ذاتها اتّضح أنّ البيت الأبيض ليس معنيّاً بدرء هجمات مباغتة من هذا النوع عن حلفائه الخليجيين الذين استنزفهم دونالد ترمب بصفقات دفاعية وأمنية وتسلّحية طائلة تتيح "وظائف، وظائف، وظائف .." للأمريكيين، بتعبيره. لكنّ ترمب نجح على ما يبدو في احتواء قضية خاشقجي التي شغلت العالم شهوراً، بما أظهر مدى التزام السياسات الخارجية للديمقراطيات الغربية بشعاراتها القيمية المجيدة.

لكنّ الديمقراطية ليست غائبة تماماً في الإقليم. حضرت تونس عبر انتخابات رئاسية وتشريعية جدّدت روح الثورة وأعادت الاعتبار لإرادة شبابها، وتخطّت محاولات إدخالها إلى نادي مناهضي الديمقراطية والحريات الذي حاول التأثير على مجرى الانتخابات بالمال السياسي المشبّع برائحة النفط، كما ورد.

أزاحت صناديق الاقتراع طبقة سياسية تقليدية أو رموز "السيستام"، كما يسمّى، وحافظت "النهضة" على تصدُّر نسبي لا يمنحها قدرة الحسم. جاء انتخاب قيس سعيّد حدثاً ذا دلالة إصلاحية وثورية في آن واحد، رغم الصعوبات الموضوعية التي تعترض فرص التغيير في بلد مُثقل بأعباء اقتصادية واجتماعية متراكمة، خاصة مع هشاشة التركيبة النيابية بعد اقتراع خريف 2019. 

جرت مياه وفيرة في عام 2019، وإن احتفظ المشهد العربي بملامحه الأساسية تقريباً. انبلجت موجة جديدة من حراك الجماهير بما أوضح أنّ خبرات الانتفاض والتظاهر استقرّت في الوعي الجمعي للشعوب التي تستأنف ولا تبدأ. 

انكشف مخزون الغضب الكامن تحت السطح في مصر التي تتفاقم أزماتها الاقتصادية والاجتماعية. يتآكل ما تبقى من النخبة السياسية المصرية وأحزابها الهشّة أو المُحبَطة والمتشظِّية، حتى بدا الفنان ورجل الأعمال، محمد علي، فارس المرحلة الجديدة. صار السيسي بدءاً من خريف 2019 في بؤرة النقد الشعبي اللاذع الذي أجّجته مقاطع محمد علي بما اشتملت عليه من بوح نادر وتفاصيل مذهلة عن حياة القصور الرئاسية، بما يوحي بأنّ النيل لن يهدأ طويلاً.

كان السودان من محطات التحوّل العربي المؤكدة في سنة 2019، حيث اختلطت مفاعلات التغيير ومحفِّزاته داخلياً وإقليمياً لتنتج حالة هجينة ومحيِّرة بين المتغيِّر والثابت. شهد البلد الفسيح الراقد على النيلين مظاهرات عارمة بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية وتدهور الجنيه السوداني وانقطاع المؤن الأساسية. حاصرت جماهير غاضبة حقبة عمر البشير بعد ثلاثين سنة من حكمه المستقرّ نسبياً، لكنّ انقلاباً داخلياً أطاح به بترتيب ضباط يحظون بصلات خارجية تتعدّد بشأنها التأويلات.

اختمرت شروط لحظة الإطاحة بعد تضافر الأزمات والمعضلات الذاتية والموضوعية، وتفويت فرص الاستدراك أو الترميم. انتهى البشير إلى قفص الاتهام والمحاكمة، وانقشع "المؤتمر الوطني" بين عشية وضحاها كعادة الأحزاب الحاكمة عندما تفيق من سكرة التمكّن.

ضمنت الترتيبات الإقليمية والدولية سرعة مشهودة في إنجاز اتفاق حكم يتقاسم فيه بعض المدنيين وبعض العسكر زمام الأمور في البلاد، برعاية ضمنية من الولايات المتحدة التي حاصرت السودان عقوداً متواصلة في عهد "الإنقاذ". تبدو واشنطن معنيّة باستقرار صيغة "الحكم الانتقالي" هذه ودفع شبح الفوضى الذي قد يزعزع القرن الأفريقي وما حوله.

كان 2019 سنة جماهير الجزائر أيضاً؛ التي لم تقنع بنشوة الفوز بكأس إفريقيا فخرجت في موجة شعبية مفتوحة شهوراً متواصلة للمطالبة بإصلاحات شاملة. اتّسم الحراك الجزائري الجديد بطول النّفَس والانضباط الواضح في الأداء والخطاب، وباستيعاب دروس الإقليم؛ ومنها عظات العشرية الدامية في الجزائر ذاتها. انطلقت الانتفاضة من رفض ولاية رئاسية جديدة لعبد العزيز بوتفليقة، فاستقال وانزاحت بعض وجوه السلطة عن المشهد أو أُزيحت، وبقي قائد أركان الجيش قايد صالح محتفظاً بخطاب ودود مع الشعب. انتهت سنة 2019 بمحطة انتخابات رئاسية مثيرة للجدل؛ ثم توفي رجل المرحلة، قايد صالح، فشيّعه الشعب وبقيت مطالب الإصلاح والتغيير.

كشفت سنة 2019 أنّ القول بنهاية "الربيع العربي" كان تخميناً متسرِّعاً تجاهَل تراكم الخبرات والدروس في وعي شعوب المنطقة، كما لم يدرك المتسرِّعون أنّ بواعث الغضب ودوافع التغيير في الواقع العربي ما زالت على حالها أو لعلّها تفاقمت خلال عقد من الزمن. 

تصرّمت سنة 2019 مع مشهد جماهيري متأجِّج في العراق ولبنان، تجاوَز حسابات الداخل بأطيافه السياسية والمذهبية المعقدة في البلدين؛ إلى تشابكه مع استقطابات وصراعات إقليمية ودولية ظاهرة أو مستترة، خاصة أنّ إيران حاضرة بقوّة فيهما. مؤكد على أي حال أنّ بغداد وبيروت لا تسعهما العودة إلى ما قبل خريف 2019، بعد أن تجلّى كلّ هذا الاحتقان الشعبي والغليان الجماهيري للعيان وبعد أن سُفك الدم في الميادين العراقية وجفّت عروق الاقتصاد اللبناني.

لم تحمل سنة 2019 بشائر بتلافي التشرذم المزمن والصراعات المحتدمة بين عواصم عربية. بقيت الأزمة الخليجية الحادّة عنواناً جلياً لمعضلة مستعصية تكشف في جوهرها عن اضطراب الرؤى الاستراتيجية أو سذاجتها.

انطفأ مجلس التعاون الخليجي رغم تعاقب اجتماعاته الدورية، وانتهت الجامعة العربية إلى نادٍ مكرّس لردود الأفعال اللفظية باتجاهات انتقائية محسوبة، بينما تتحرّك قوى إقليمية ودولية على الأرض وتتفاقم حروب الوكالة التي لم ينشغل الموقف العربي المشترك بها. 

اختتمت الجامعة سنة 2019 بالانزعاج من الترتيبات الاستراتيجية الليبية – التركية، والتغافل عن أيدٍ تتداعى إلى القصعة الليبية، ومنها مصالح فرنسية وإيطالية وروسية وأمريكية وغيرها. جرى مثل ذلك عندما انشغلت الجامعة العربية بعملية "نبع السلام" التركية وتجاهلت حملات عسكرية وضربات جوية تواصلت بلا هوادة من دول شتى في العمق السوري، علاوة على جولات القصف الإسرائيلية التي باتت اعتيادية في دمشق وما حولها.

يدخل الواقع العربي العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين بدول متفرِّقة الأهواء وبعضها ممزّق الأوصال أيضاً؛ مثل سورية وليبيا واليمن وربما العراق أيضاً، وثمة خشية على تماسك دول عربية أخرى في منعطفات لاحقة. ما زالت أنظمة الاستبداد والفساد تهيمن على المشهد، وتحظى في ذلك برعاية خارجية صريحة أو ضمنية من قوى النفوذ الدولي التي لا تجد حرجاً من تسجيل حضورها المباشر في المنطقة وبلا استئذان أحياناً.

يدخل العالم العربي سنة 2020 وقد تقلّص مدى الرؤية وانفتحت التوقّعات على احتمالات تتّسع لمفاجآت وتداعيات تتفاعل عبر تجاذبات الإقليم واستقطابات العالم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً