تابعنا
كثرت التوقعات بأنّ الاقتصاد العالمي على أعتاب دورة جديدة من التأزم والركود؛ ملايين حول العالم يفقدون وظائفهم، وغيرهم مهدد بالتسريح والتهجير أو تخفيض الأجور،

كذلك تتعرض شركات ومصارف ومشروعات غير محدودة للكساد إذا لم يكن الإفلاس حتى في الدول الرأسمالية الأكثر تطوراً. بطبيعة الحال يعود جزء كبير من ذلك إلى تفشي فيروس كورونا المستجد، إلا أنّ ما فعله الفيروس هو تعرية ثغرات النظام الرأسمالي ومدى عجزه عن القيام بوظائفه وإخلاله بمتطلبات الرفاه الاجتماعي.

عالم ما بعد كورونا

وفي محاولة لإثبات مرونة النظام وقدرته على تخطى أزماته، أسرعت الدول الأوروبية على نحو استثنائي باتخاذ حزمة من القرارات التي بدا بعضها ذا طابع اشتراكي أو شبيهة بسياسات دولة الرفاه الاجتماعي، فيما تدخلت الولايات المتحدة على سبيل المثال في توجيه بعض قطاعات الإنتاج.

كما أطلقت هذه الدول مجموعة من خطط التحفيز والضمان الائتماني التي تعني تأخير سداد الضرائب والديون المستحقة، غير الإنفاق الحكومي والتمويل بالعجز من خلال دفع معونات نقدية للمواطنين، إضافةِ إلى الإعفاء من رسوم خدمات المرافق العامة.

بمنطق الحرب إذن تعاملت تلك الدول مع فيروس كورونا، وقد أعلنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صريحة: "إننا في حالة حرب"، ولا نعلم إذا كانت الحرب موضوعها الفيروس أم النظام الذي صار أكثر عُرضة لتصويب سهام النقد ضده إذا لم يكن الحلم بسقوطه، حسب ما صرح العديد من خصومه الآيدولوجيين حالمين بعالم آخر ما بعد الكورونا.

وبصرف النظر عن مدى تحقق هذا الحلم وواقعيته، فمن الواضح أنّ فيروس كورونا المستجد يعيد إنتاج خطاب الدروس المستفادة الذي ساد عقب الحرب العالمية الثانية، بل تستعيد الذاكرة اليوم أزمة الكساد العالمي 1929-1933، وربما يكون أول الدروس المستفادة هو الإجماع أو القبول العام بضرورة إصلاح النظام الرأسمالي أو البحث عن بدائل، لكننا وعلى حد قول جون ماينارد كينز: "حين نسأل عن البديل، نقع في حيرة".

ما دولة الرفاه الاجتماعي؟

غير أنّ كينز حسم حيرته، وتمكّن بنظريته الاقتصادية (التشغيل الكامل وزيادة الطلب الكلي) من إنقاذ الرأسمالية بدولة الرفاه الاجتماعي، إذ تتدخل الدولة في توجيه الاقتصاد بهدف إحداث نمو رأسمالي تلتزم فيه التشغيل الكامل للعمالة ونظام أجور مناسب، وضمانات حماية تتمثل في زيادة الإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي.

بمعنى أكثر تفصيلاً كانت دولة الرفاه الكينزية هي نموذج الإصلاح البديل الذي قُدم لإنقاذ عالم ما بعد الحرب ومواجهة الشيوعية السوفيتية، وفصل زمني قصير من التوازن الذي يندر حدوثه بين السوق والمجتمع والدولة.

فالدولة بما تملكه من سلطة فاعلة وإمكانيات تمويل تفوق قدرة الأفراد والمؤسسة الخاصة، تمكنت من إقراض آلاف المشروعات والاستثمارات الضخمة وتمويلها بهدف امتصاص معدلات البطالة، وهنا تحقق "التشغيل الكامل وزيادة الإنتاج"، ومن ثمّ ارتفاع القوة الشرائية وزيادة الطلب الكلي أي الاستهلاك الجماهيري للإنتاج، ومن ثمّ إعادة الثقة إلى الأسواق ودوران العجلة الإنتاجية وهكذا دواليك.

لكن ماذا لو استنفدت الدولة قدرتها الاستثمارية أو كان لدى الدولة فئات أو شرائح اجتماعية خارج منظومة الإنتاج وغير قادرين على العمل؟

يشيد كينز هنا بالتدمير أو التبديد الخلاق؛ يمكن للدولة أن تدمر بعض المشروعات في سبيل إعادة إنتاجها وإنعاش الاقتصاد، وحسب منطقه هذا "حتى الزلازل والحروب والكوارث يمكنها أن تخلق الثروة" المهم هو الإنفاق، أن تنفق الحكومة ويعمل المواطنون ويستهلكون، أما من هم خارج منظومة الإنتاج فيمكن للحكومة أن تنفق بالعجز عليهم أيضاً أي تخصص لهم إعانات نقدية ينفقونها.

يتضح من هذا التصور أن تلك الدولة كانت بالدرجة الأولى تخص الدول الرأسمالية المتطورة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تستحوذ على ثلاثة أرباع إنتاج العالم، وما يزيد على 80% من صادراته المصنعة، حسب تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 1979.

كان اقتصاد العالم وقتئذ ينمو بوتيرة متفجرة ويحقق أرباحاً فلكية، إذ تضاعف الإنتاج العالمي من المواد المصنعة أربع مرات بين أوائل الخمسينيات وأوائل الستينيات، كذلك زادت تبادلات التجارة الدولية من التصنيع بمقدار عشرة أمثال، كما شهد الإنتاج الزراعي العالمي ارتفاعاً حاداً، وزادت إنتاجية الأرض أكثر من الضعف بفضل الهندسة الجينية والثورة التقنية التي خلّفتها الحرب.

بالمثل تضاعفت معدلات الاستهلاك الجماهيري، وزاد الطلب الكلي على الغذاء والعقارات والبنية التحتية وكل ما أنتجته المكننة من شاحنات وسيارات وهواتف وأجهزة منزلية، غير التوسع في التعليم، وارتفاع معدلات الهجرة والسياحة والزحف الحضري على نحو غير مسبوق. وبكلمة موجزة حسب المؤرخ إريك هوبزباوم "كان بوسع المواطن العادي في تلك البلدان أن يعيش كأي ثري عاش في أيام والديه".

أما عالمنا الثالث فقد كان لا يزال يحبو ويتخبط في دولة الاستقلال الحديثة التي تولت قيادتها أنظمة حكم عسكرية لا تجيد لعبة السياسة، إلا أنها وبوصفها طليعة تقدمية تبنت التخطيط المركزي للاقتصاد وتوسعت في الإنفاق على قطاعات الرفاه الاجتماعي.

كذلك حاولت مواجهة البطالة بالتوسع في مشروعات القطاع العام والتصنيع على غرار الاتحاد السوفيتي، لكن السلبية السياسية والاجتماعية، وعدم استقرار المنطقة أمنياً، غير فشل مشروعات التنمية المستدامة وانهيار الأنظمة الاشتراكية وإخفاقها في تحقيق ما وعدت به من تقدم وحريات، كلها شروط ساهمت في ألا تستفيد مجتمعاتنا من تلك المرحلة ومن ثمّ استمرارية بنية اقتصادية متخلفة، وشعوب أمية ذات ثقافة متدنية يغلب عليها الخرافة وطابع القدرية، وحريات منعدمة.

من يدفع فاتورة التغيير مجدداً؟

حين تعلو الانتقادات بضرورة تغيير النظام أو إصلاحه، وليكن على شاكلة دولة الرفاه الاجتماعي، لا بدّ أن نسأل عن الكيفية ونحن نشير إلى تحديات واقعنا الحالي الذي تغيرت معطياته عن ستينيات القرن الماضي، فعولمة الاقتصاد التي تبدو صعوبة الرجوع عنها إن لم يكن استحالته، تعد عائقاً، إذ إن دولة الحماية والتدخل كانت انتصاراً لمفهوم الدولة الوطنية ذات الحدود الثابتة والسيادة الكاملة التي يحق لها والحال كذلك، سن القوانين والتشريعات الحمائية وغيرها من السياسات الاقتصادية والاجتماعية الضامنة لزيادة الإنتاج والدخل القومي، والاستحواذ على فائض القيمة.

كان الاقتصاد ذا طابع دولي، وليس عابراً للدول القومية، كما اليوم، إذ يمكن للشركات أن تتمدد عبر سلاسل إنتاج وتوزيع واستهلاك متشعبة في كل عواصم العالم وحواضره، متحررة من أي قيود قانونية بوسع الدول الوطنية المضيفة فرضها، عدا الشركات الرقمية العملاقة الأكثر قدرة على التهرب من الضرائب، فيما يعرف "بالملاذات الضريبية".

اقتصاد السلاسل المعولمة والمرقمن هذا ترتب عليه تغير أنماط العمل وعلاقات الإنتاج وكذلك زمنيته، فلم تعد لدينا كما الستينيات العلاقة بين المنتج وصاحب رأس المال المحددة مكانياً بالمصنع وساعات عمل معدودة، بل أصبحنا نعيش عصر الأسواق الإلكترونية، واللا مكان الصناعي الذي تتغير فيه مواقع الإنتاج حسب تواجد العمالة الرخيصة في دول آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.

وبالتبعية اختفت النقابة أو فقدت فاعليتها التي كانت تتمتع بها في زمن دولة الرفاة أو الديمقراطية الاجتماعية، إذ كانت تمثل الوسيط التنظيمي والتضامني لحماية حقوق العامل من تعسف الدولة أو المالك.

تنافي العمالة الرخيصة أيضاً جوهر الاقتصاد الكينزي، فامتداد سلاسل الإنتاج تعني بالتبعية تغير نوعية المستهلك، وهو نفسه العامل في البلدان الفقيرة، فمن أين سينفق إذا كان أجره هزيلاً؟ أو يعيش في شروط معيشية متدنية بالعموم؟ وكيف ستنفق دول العالم الثالث على مشروعاتها ومواطنيها بالعجز وهي رهينة لسياسات الاستدانة والريع؟ كذلك كيف ستزيد من معدلات الإنفاق بالاستدانة هذه على الصحة والضمان الاجتماعي وهي قطاعات غير إنتاجية؟ وكذلك التعليم وهي ليست باحتياج إليه في سوق العمل؟ هذا غير أن أمنها غير المستقر واستمرارها في الحروب والصراعات يفرض عليها زيادة الإنفاق على التسليح.

مسألة أخرى لا تقل أهمية، وهي ارتفاع معدلات سكان العالم وخصوصاً في جنوبه الفقير، إذ بلغ ضعف ما كان عليه في أواخر الستينيات، مما يعني أننا بحاجة إلى أضعاف مضاعفة من استغلال الموارد الطبيعية وزيادة إنتاجية الغذاء، وكذلك الطاقة، ذلك إذا أرادت الدول المتخلفة اقتصادياً أن تساهم في الإنتاج العالمي، وتتوسع في عملية التصنيع والتمدين، وهو ما يواجهه دعوات الترشيد والحفاظ على البيئة خوفاً من التقلبات المناخية الخطرة، مثل الاحتباس الحراري والانبعاث الإشعاعي وجفاف المياه ونضوب الطاقة، وإن كانت الأخيرة تعاني من زيادة العرض على الطلب الآن.

كتب ديفيد هارفي بأحد مقالاته تعقيباً على فيروس كورونا المستجد: "إنه انتقام الطبيعة إزاء أكثر من 40 سنة من معاملتها الجسيمة والمتعسفة من قِبل نزعة استخراجية نيوليبرالية متوحشة ومنفلتة من كل عقال".

وفي الواقع سواء كان النظام رأسمالياً أو اشتراكياً، فليس أمامه سوى زيادة الإنتاج التي تعنى مزيداً من هذا الاستنزاف، كل ما في الأمر اختلاف آليات توزيع فائض القيمة، أما والدعوة للتغيير فيمكن للدول القوية التي تتمتع بالسيادة وإدارة النظام العالمي أن تغير -ولو دولة شبيهة بالرفاه الاجتماعي الستينية، لكنه سيكون تغييراً يعيد إنتاج قوتها فيما تستمر الدول المتخلفة في تخلفها وفقرها وسلطويتها.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي