الرئيس الفرنسي أمانويل ماكرون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين  (AFP)
تابعنا

قد تبدو المطالبة بخروج فرنسا من قيادة حلف شمال الأطلسي مزايدة انتخابية عابرة، فهي تأتي من أقصى اليمين السياسي الذي يطمح إلى الظفر بالإليزيه. بيْد أنّ ما نادت به مارين لوبان، زعيمة التجمّع الوطني، خلال حملة الانتخابات الرئاسية الحالية كما فعلت في سابقتها سنة 2017، ينكأ جراح فرنسا الاستراتيجية ويعبِّر عن حيرة بعض النخب السياسية في البلاد بشأن ما يتعيّن عمله في هذا الصدد.

واقع الحال أنها سنوات عجاف بالنسبة إلى فرنسا على المستوى الاستراتيجي. ذلك أنّ نفوذها التقليدي في دول الساحل والصحراء يتزعزع، وتخسر صفقات تسلٌّح كبرى مع شركائها، وتواجه أواصرها وتحالفاتها الغربية أزمة كشفها تشكيل التحالف الأنجلوسكسوني الثلاثي (أوكوس) الذي ضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، علاوة على الاختبار الشاقّ الذي جسّدته الأزمة الأوكرانية لأوروبا عموماً، وفرنسا وألمانيا خصوصاً.

تتزاحم هذه المعضلات وغيرها في توقيت حرج بالنسبة إلى باريس التي تشهد معركة انتخابية رئاسية يلعب فيها بعض المتنافسين بأوراق استراتيجية صعبة كما فعلت لوبان. تريد لوبان أيضاً اختزال الاتحاد الأوروبي إلى علاقة اقتصادية تعاونية لا سلطان لها على الدول الأعضاء وأعلنت عزمها الدعوة إلى استفتاء شعبي للخروج من الاتحاد إن لم يستجب لهذه "الإصلاحات" التي تطالب بها. يصعد مقابل لوبان سياسي شعبوي أشدّ تطرّفاً هو إريك زمور، الذي يطفح بالعنصرية ويبدو نسخة أكثر صلفاً من دونالد ترمب.

يحدث هذا فيما ينهمك الرئيس إيمانويل ماكرون، في ربع الساعة الأخير من ولايته الأولى، في تسجيل حضور فرنسا على المسرح الدولي من خلال جهود دبلوماسية وإطلاق مبادرات ومباشرة وساطات، فظهر في موسكو وكييف على التوالي تحت عنوان احتواء الأزمة الأوكرانية.

لكنّ ذلك لا يُغيِّر من ضمور دور فرنسا في عالم متعدِّد الأقطاب، وخشيتها من فقدان مساحات نفوذ كانت محسومة لها حتى وقت قريب.

فبينما كان ماكرون يلتقي بوتين في موسكو، كانت قيادة مالي المدعومة من قوات فاغنر الروسية تندِّد بدور فرنسا في البلاد خلال السنوات الأخيرة وتؤكِّد قطيعة باماكو مع باريس التي أرسلت جيشها إلى هذا البلد الإفريقي قبل سنوات باسم القيام بحملات عسكرية ضد مجموعات مسلّحة.

تتزايد النقمة على فرنسا في بلدان أفريقية أخرى إلى درجة تؤرِّق باريس التي تلحظ أدواراً روسية وأمريكية وصينية وتركية تزيحها عن مناطق حظيت بأولوية في الحضور والنفوذ بالنسبة لفرنسا.

تتلازم هذا التطوُّرات مع تراجع وزن أوروبا الموحّدة الاستراتيجي بعد خروج بريطانيا منها واستمرار عجز القارّة عن إبرام صيغة دفاعية مشتركة خاصة بها حتى الآن رغم المحاولات التي تلاحقت في هذا الشأن.

يأتي هذا بينما تواصل واشنطن تعزيز نفوذها الاستراتيجي في أحشاء الاتحاد الأوروبي، كما يتجلّى في نشر قوات أمريكية في وسط أوروبا وشرقها تحت عنوان طمأنة العواصم الأوروبية المذعورة من احتمالات التمدُّد الروسي. رسمت التطوّرات الأوكرانية دوراً ثانوياً لأوروبا الموحدة حتى في إدارة الأزمات الجارية في القارّة، قياساً بتصدُّر واشنطن ومعها بريطانيا، مقابل موسكو ومعها بكين.

يمسّ هذا الضمور الأوروبي ألمانيا بطبيعة الحال، لكنّه أشدّ وطأة على فرنسا التي تتميّز بمصالحها الحيوية مع مستعمراتها السابقة وبرشاقة تدخُّلاتها العسكرية في الخارج وبحرصها على مكانة متصدِّرة على مسرح السياسة الدولية. يبدو من المنطقي، بالتالي، أن تسجِّل هذه المعضلات الاستراتيجية المشهودة حضورها في سباق الترشّح إلى الإليزيه.

تبدو فرنسا منشغلة بإعادة التموضع الاستراتيجي من خلال تنشيط تحرّكاتها ومبادراتها الخارجية، لكنّ وثباتها السريعة تفتقر إلى الرصيد الكافي الذي يضمن لها الفعالية والاستدامة. واصل ماكرون خلال ولايته الأولى مساعيه الخارجية الدؤوبة، لكنه لم يخرج منها بإنجازات ملحوظة. خرجت فرنسا خالية الوفاض من سوريا وليبيا، ولم تنجح في دفع الاتحاد الأوروبي إلى التصعيد ضد تركيا، وأخفقت في معالجة الأزمة اللبنانية، ولم تسترجع علاقات الرياض مع بيروت رغم وساطة ماكرون في هذا الشأن.

ثمّ إنّ العواصم التي تستقبل إيمانويل ماكرون حالياً ليست واثقة من وجهة باريس الخارجية بعد شهور معدودة، بالنظر إلى الانتخابات الرئاسية في إبريل/نيسان ومايو/أيار التي يواجه فيها ماكرون اختباراً حرجاً رغم تقدّمه النسبي في استطلاعات الرأي، علاوة على أنه لم يُعلِن الترشّح لها بعد. كما أنّ فرنسا تخسر بعضاً من أوراق قوّتها بالنظر إلى تضعضع شراكاتها الاستراتيجية الغربية وأواصرها مع مستعمراتها السابقة. ثمّ إنّ حرص ماكرون على تهدئة الأزمة الأوكرانية له بُعد شخصي يتمثّل في رغبته في انتزاع إنجاز على المستوى الدولي كي يمنح الانطباع لجمهوره بأنّ مكانة فرنسا الدولية لم تتدهور خلال عهده. وقد تؤدي تطوّرات الأزمة على جبهة أوروبا الشرقية إلى التأثير على حظوظ الرئيس الفرنسي في يوم الاقتراع، ما يجعله حريصاً على تبريد الأزمة حتى اجتياز المعركة الانتخابية على الأقل.

وإذ تحاول فرنسا إنعاش دورها في إدارة هذه الأزمة الدولية التي تدور رحاها عند بوابة أوروبا الشرقية، وإعادة التموضع وإثبات حضورها بين الأقطاب المتنافسة في العالم، فإنّ اعتمادها وأوروبا على حلف الأطلسي يكبح تطلّعاتها في هذا الشأن. تزايدت تحفظات باريس على الناتو في السنوات الأخيرة، حتى إنّ ماكرون اعتبر في سنة 2019 أنّ "الحلف في حالة موت سريري"، وكرّر ذلك في سنة 2020. ثمّ انتهى المشهد في سنة 2021 بخروج القوات الأطلسية، ومن بينها قوات فرنسية، بشكل مهين ومرتبك من أفغانستان، تحت قيادة الولايات المتحدة التي أحرجت شركاءها الأوروبيين الذين احتلوّا البلاد عشرين سنة كاملة إلى جانبها ثم تجاهلتهم في ترتيبات الخروج السريع. جاءت الاستجابة الفرنسية لإخفاق تجربة غزو أفغانستان بتجديد الدعوة إلى أن تتدبّر أوروبا خيارات العسكرية المشتركة دون أن تتّضح خريطة طريق مُوصلة إلى هذا الطموح المتقادم. جاءت الأزمة الأوكرانية من بعد لتؤكِّد أنّ أوروبا ترتقب من جانب الأطلسي الغربي أن يأتي مَن يدافع عنها في لحظة الحقيقة، لكنّ واشنطن إذ تبعث بقواتها وتعزيزاتها إلى بولندا ورومانيا ودول البلطيق تتصرّف انطلاقاً من حساباتها التي لا تتطابق مع تقديرات عواصم القرار الأوروبي، أو باريس وبرلين في المقام الأوّل.

لا عجب، إذن، أن يصير بقاء فرنسا في قيادة حلف شمال الأطلسي (ناتو) موضوعاً لمزايدات انتخابية، على النحو الذي نادت به مارين لوبان من جديد، لكنّ إثارة المسألة في هذا الموسم تحديداً تُفصِح عن القلق الاستراتيجي الراهن في فرنسا وعن حيرة بعض النخب الفرنسية بشأن وجهة البلاد في عالم متغيِّر.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً