تابعنا
مع انطلاق عملية "نبع السلام" التركية شمال شرقي سوريا، بدأت الدول الغربية، سيما الأوروبية منها، بانتقاد المساعي التركية العازمة على مكافحة تنظيمَي PKK و YPG الإرهابيين وإدانتها.

وقد تجاهلت وسائل إعلامها بشكل عام التهديدات التي تستهدف الأراضي التركية من جانب إرهابيي YPG. وتعاملت مع هذا التنظيم الإرهابي كقوة شرعية لمحاربة داعش.

ولا يقتصر موقف الدول الغربية تجاه سوريا على هذا الأمر. فعلى الرغم من معاناتها بشكل ملحوظ من موجات اللجوء الناجمة عن الأزمة السورية، فإن الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا، لا تزال مع الأسف تواصل تبنّي سياسة عدم التعاون مع تركيا فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب.

وعلى مدار الأسبوعين الأخيرين، تبنت الدول الأوروبية وخصوصاً ألمانيا، سياسة متحيزة للغاية تجاه عملية نبع السلام التركية ضد أوكار الإرهاب شمال شرقي سوريا، ولم تكتفِ بعدم دعمها، بل اتخذت موقفاً عدائياً تقريباً ضد تركيا.

وأظهرت دول الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها الحكومة الفيدرالية بألمانيا، إلى جانب أحزاب المعارضة، ووسائل الإعلام، ومراكز الأبحاث، عملية نبع السلام وكأنها موجهة ضد الأكراد متغافلين عن السبب الحقيقي وراءها.

وصدرت دعوات متخبطة لفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، إلى جانب تعليق مشروع عضوية أنقرة بالاتحاد الأوروبي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الأحزاب الأوروبية مثل الحزب اليساري الألماني لا يعتبر أصلاً تنظيم PKK تنظيماً إرهابياً، لدرجة أن كثيراً من نوابه بالبرلمان يطالبون برفع حظر التنظيم في ألمانيا.

ومن الجدير ملاحظته أن الائتلاف الحكومي الألماني المُكوّن من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والحزب الديمقراطي الاشتراكي، يعتبر تنظيم YPG الإرهابي مرادفاً للأكراد. فمع الأسف، تصر الحكومة الألمانية على موقفها الرسمي الذي يرى YPG تنظيماً شرعياً، على الرغم من علمها أنه و PKK يمثلان الشيء نفسه، وعلى هذا النحو ارتباطه الواضح والصريح بالإرهاب.

وفي هذا السياق، كان لافتاً للانتباه إعلان برلين إيقاف تصدير الأسلحة إلى أنقرة، وتأجيل عملاق صناعة السيارات الألمانية شركة فولكس فاجن اتخاذ قرارها النهائي بشأن بناء مصنع للسيارات في ولاية مانيسة التركية، فضلاً عن إصرار عديد من الإعلاميين الألمان على اعتبار تنظيم YPG الإرهابي مرادفاً لـ"كل الأكراد".

لكن من الواجب توضيح أن الحكومة الألمانية سعت لأن تكون أكثر حذراً في موقفها المعارض لتركيا والتصرف بشكل متزن إلى حد ما، على الرغم من الولايات المتحدة، وذلك بالمقارنة مع دول غربية وأوروبية أخرى. فاستضافة ألمانيا لقرابة مليون سوري على أراضيها يفرض عليها مواصلة التعاون مع تركيا. ولكن مع ذلك وجهت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مؤخراً انتقادات حادة إلى عملية نبع السلام التركية شمال شرقي سوريا، وقررت تعليق صادرات السلاح إلى تركيا؛ للتخفيف من حدة ضغوطات الرأي العام الداخلي.

ولكنها من منظور واقعي شددت على ضرورة استمرار الاتفاقية الأوروبية التركية بشأن اللاجئين. وقد أوضحت ميركل في كلمة مؤخراً أنه هكذا فقط "يجري إنقاذ الحياة" في إشارة إلى محاولة إحداث بعض التوازن فيما يتعلق بالعلاقات مع تركيا.

ومع النظر إلى تصريحات بعض الساسة الواقعيين والعقلانيين، تمكننا أيضاً رؤية أن ألمانيا حريصة على التعاون مع تركيا ليس فقط فيما يتعلق بقضية اللاجئين، بل على الصعيد الاقتصادي أيضاً.

على سبيل المثال، نوربرت روتغن، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني (حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي)، فبعيداً عن توجيهه انتقادات بشكل عام إلى تركيا بسبب عملية نبع السلام، فإنه لم يكتفِ بذلك وحسب، بل وجّه أسهم نقده إلى الاتحاد الأوروبي أيضاً، معتبراً إياه مسؤولاً عما يحدث في سوريا، نظراً إلى تبنّيه سياسة سلبية منذ بدء الأزمة السورية. كما دعا الاتحاد الأوروبي إلى نقد سياساته بشكل ذاتي.

وعلى نفس الوتيرة، حذر "يورغن هارت" المتحدث باسم شؤون السياسة الخارجية في كتلة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي بالبرلمان من نتائج عكسية للعقوبات على تركيا. وعلى الرغم من إعلانه صراحة أن ألمانيا بحاجة إلى تركيا قوية ومستقرة، فإنه اعتبر نقد عملية نبع السلام أمراً آخر. ودعا هارت إلى التحلي بالهدوء قائلاً إن "التدابير التي من شأنها إضعاف تركيا تعد شيئاً مختلفاً جداً".

وأخيراً، اتسمت تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الألماني السابق زيغمار غابرييل، عن تنظيم PKK الإرهابي وفاعلياته في ألمانيا بكثير من العقلانية والواقعية. فغابرييل الذي عمل نائباً للمستشارة الألمانية وترأس الحزب الاشتراكي الديمقراطي وعاشت العلاقات التركية الألمانية أسوأ فتراتها في عهده، قال إن PKK ليس تنظيماً محظوراً في تركيا وحسب بل في ألمانيا أيضاً، ومقدماً أطروحات تدعم موقف تركيا من تنظيم YPG. وأضاف أن "الأوروبيين دائماً ما حذروا الأمريكيين من السماح بإنشاء دويلة على الحدود التركية تحت سيطرة PKK، لأن تركيا وفقاً لغابرييل "لن تسمح بذلك أبداً، أياً كان الطرف الذي يديرها".

وبناء على ما سبق، فإن عملية نبع السلام التركية شمال شرقي سوريا ومكافحة أنقرة الفعالة ضد إرهاب تنظيمي PKK و YPG لا تزال لم تلقَ مع الأسف الاهتمام اللازم لدى الوسائط السياسية والإعلامية الأوروبية.

فلا تزال دوائر تنظيم PKK تنظم مظاهرات تضامنية مع إرهابيي YPG، وترفع رايات التنظيم الإرهابي ولافتاته، دون أية عوائق من الشرطة الألمانية، على الرغم من مخالفة هذه الأعلام للقانون. كذلك تواصل هذه الدوائر تنفيذ هجمات ضد جمعيات تركية في ألمانيا، في وقت تستهدف فيه وسائل إعلام ألمانية المسلمين في المساجد التركية، بحجة دعائهم من أجل نصر الجيش التركي، وترى في هذا الدعاء مشكلة كبيرة.

وعلى الرغم من ذلك، لا تزال في أوروبا وألمانيا أوساط سياسية واقتصادية حكيمة تتعامل مع القضية من منظور عقلاني هادئ، لما تتمتع به تركيا الحليفة من أهمية كبيرة بالنسبة إليهم، سواء على صعيد قضية اللاجئين وأمن أوروبا بصفة عامة، أو نظراً إلى كونها سوقاً اقتصادية مهمة.

ولهذا السبب، فإن إقامة "المنطقة الآمنة" التي تسعى تركيا لتشكيلها في أقرب وقت عبر عملية "نبع السلام"، ستكون مرحلة تحرص ألمانيا على متابعتها على المدى المتوسط والبعيد. لأن هذا الأمر مرتبط بتواصل خسارة أحزاب الوسط الألمانية كثيراً من أصواتها لصالح الأحزاب اليمينية، وعليه تصاعد ردود الفعل الغاضبة تجاه اللاجئين السوريين المقيمين بالبلاد. ومن ثم فإن إعادة اللاجئين السوريين إلى المنطقة الآمنة ستمثل تطوراً مهمّاً تحرص الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا على اتخاذ خطوات بشأنها على المدى المتوسط والبعيد.

وفي هذا السياق، فإنه من المرجح بشدة مع انتصار تركيا خلال الأيام المقبلة، أن تحل دعوات التعاون مع أنقرة محل الانتقادات التي توجهها أوروبا وألمانيا بشكل علني إليها هذه الأيام.

كذلك من الممكن قراءة إعلان عدد من الزعماء الأوروبيين عزمهم عقد لقاء مع الرئيس رجب طيب أردوغان خلال الأيام المقبلة، كمؤشر إلى هذه الاتجاه. فمن المؤكد أن الدول الغربية وفي مقدمتها أوروبا، لن ترغب عاجلاً أو آجلاً في استبدال تركيا والتعاون مع تنظيم إرهابي مثل YPG، كذلك من المؤكد أنها ستعود آجلاً أو عاجلاً عن إصرارها الخاطئ الراهن.

فالأوساط السياسية الحكيمة والواقعية في الغرب تعي جيداً أن أمن أوروبا والدول الغربية مرتبط بأمن الحدود التركية، ولهذا السبب تستمر حالياً حتى ولو على نطاق محدود في دعواتها لمواصلة التعاون مع تركيا. بالإضافة إلى أن الدول الغربية في الأساس تعاني من ضعف استراتيجي عام فيما يتعلق بالقضية السورية، وليس لديها بدائل متنوعة على المدى المتوسط والبعيد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي