تابعنا
مع أول صلاة للعيد في آيا صوفيا بعد عودته إلى مسجد من جديد، ومع تضاؤل ردات الفعل الخارجية، يصبح من الضروري مجدداً الحديث عن دلالات وتبعات هذه اللحظة التاريخية تركيا.
هدأت إلى حد كبير كما كنا توقعنا ردود الفعل على قرار إعادة مبنى آيا صوفيا مسجداً كما أوقفه السلطان محمد الفاتح بعد فتحه القسطنطينية، وبعدما بقي متحفاً مدة 86 عاماً على إثر قرار من المجلس الوزاري في بدايات العهد الجمهوري في تركيا.

فكما لم تدفع ردود الفعل الاستباقية على القرار أنقرة إلى التراجع عنه، إذ أصدر الرئيس التركي مرسوماً رئاسياً سريعاً يتناغم مع القرار القضائي ويعيد تبعية آيا صوفيا إدارياً إلى رئاسة الشؤون الدينية، فإن ردود الفعل التالية للقرار كانت ضمن السياق المتوقع.

تقدمت اليونان الجهات الرافضة للقرار، أولاً من زاوية تاريخية-قومية-دينية، وثانياً بسبب العلاقات المتوترة مؤخراً مع تركيا بسبب القضية القبرصية وجزر بحر إيجه وكذلك ملف التنقيب عن غاز شرق المتوسط، الذي كاد أن يؤدي مؤخراً إلى احتكاك عسكري بين البلدين قبل أن تتدخل المستشارة الألمانية بوساطة بينهما وتظهَرُ بوادر حوار ثنائي حول القضايا العالقة.

إلى ذلك كانت لبعض الشخصيات الدينية في العالم المسيحي مواقف، وكذلك بعض المواقف السياسية من الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وغيرها، فضلاً عن موقف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" التي هددت بإخراج المبنى من قائمة مواقع التراث العالمية التي أضيف إليها عام 1985.

داخلياً، أظهرت بعض استطلاعات الرأي التي أجريت بعد تنفيذ القرار ارتفاع نسبة التأييد له من حوالي %50 إلى حوالي %70، تتوزع على %90 من أنصار العدالة والتنمية والحركة القومية أو تحالف الجمهور، و%40 من أنصار الشعب الجمهوري، و%50-55 من أنصار الحزب الجيد، و %60-65 من أنصار الشعوب الديمقراطي، وفق ما أعلن نائب رئيس حزب العدالة والتنمية حمزة داغ.

إذن، في ظل الالتفاف الداخلي القريب من شبه الإجماع وتراجع ردات الفعل الخارجية بشكل ملحوظ، يبقى الأهم هو الحديث عن دلالات القرار وتبعاته في تركيا وعليها في المدى المنظور.

في المقام الأول، أثبت القرار أهمية آيا صوفيا ورمزيتها لدى الشعب التركي ومختلف الأطياف. ذلك أن حضور نحو 350 ألف مُصَلٍّ في الجمعة الأولى في المسجد بعد القرار، وعلى الرغم من وباء كورونا، يشير إلى مدى "الاشتياق" والتأييد الشعبي للقرار الذي أتى في الأصل من مطالبات شعبية تحولت إلى مسار قضائي.

تتوزع هذه الرمزيات بين "دينية" ترتبط بفتح القسطنطينية وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن جيش فتحها وأميره، و"قومية" تحيل إلى الصراع العثماني-البيزنطي وتتفاعل مع التوترات الأخيرة مع اليونان، و"أيديولوجية" متعلقة بالفكر المحافظ في مواجهة العلمانية المتشددة السابقة في البلاد.

ولهذه الرمزيات تحديداً، لم يكن مستغرباً أن تكون الشريحة المحافظة هي الفئة المطالبة بإعادة المسجد واستعادته تقليدياً، وأن ينضم إليهم القوميون مؤخراً بشكل لافت، وألا يكون من الشرائح والتيارات الأخرى اعتراض ملموس.

الرمزية الثالثة تحديداً مهمة جداً وتستحق البحث والتقييم، فهي الوحيدة المرتبطة بالمشهد الداخلي التركي، وفي جزئية بالغة الحساسية والتعقيد.

للمزيد يمكنك الاطلاع على:
لماذا عاد آيا صوفيا مسجداً؟

فقد جاء قرار تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف في ثلاثينيات القرن الماضي في سياق التغريب والعلمنة الشديدة، بينما أتى قرار الإعادة -أو إلغاء القرار السابق- في ظل توجُّه قومي محافظ من العدالة والتنمية في السنوات القليلة الأخيرة.

لم يتحَدَّ العدالة والتنمية العلمانية كأحد مبادئ الجمهورية ولم يدعُ للتخلي عنها، بل قدم أردوغان والحزب تفسيراً مخففاً لها يجعلها أقرب إلى موقف حيادي للدولة من مختلف أطياف الشعب من دون فرض هوية أو أيديولوجية معينة عليه.

ولسنوات طويلة، حضر الكثير من الأسماء والأحداث والرمزيات والرموز من الحقبة العثمانية في واقع تركيا الحديث، ما يجعل آيا صوفيا خطوة تتويج لعدد من المحطات السابقة، التي تخدم سردية "الجمهورية الثانية" التي يتداولها الكثيرون مؤخراً.

تحيل هذه السردية إلى هوية جديدة تبنى عليها الجمهورية التركية، بعيدة عن العلمانية المتشددة التي عرفت بها وعانت منها عقوداً طويلة، وأقرب إلى ثقافة الشعب التركي كمزيج بين المحافظة والقومية. ولعل الخطاب القومي الذي ساد في السنوات الأخيرة على هامش العمليات العسكرية خارج الحدود والمحطات الانتخابية المتعددة تراجع مؤخراً بشكل نسبي لصالح الخطاب المحافظ، لعدة أسباب من بينها متغيرات الخريطة الحزبية في الشهور القليلة الأخيرة.

كما أن من الدلالات المهمة للقرار وبالتوازي مع ما سبق، مدى حضور التيار القومي بالمعادلة السياسية الداخلية، الذي دعم قرارات عديدة للحكومة التركية مؤخراً لارتباطها بالأمن القومي. إن تحمُّس التيار القومي لقرار آيا صوفيا، لدرجة أن البعض عدَّ القرارَ تنفيذاً لاشتراط الحركة القومية، يشير بشكل واضح إلى التقارب الشديد بين الأجندتين المحافظة والقومية في البلاد.

خارجياً، توجد دلالة لا تخفى تحيل إلى تركيا مختلفة اليوم عنها سابقاً في نظرتها إلى نفسها ومكانتها ودورها في الإقليم والعالم ومدى تعاملها معهما. أن تتخذ أنقرة قراراً من هذا النوع من المتوقع أن يثير اعتراضَ الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والجارة اللدودة اليونان والصديق المستجد روسيا، يضفي دلالات إضافية على تركيا الجديدة التي تتعامل باستقلالية ملحوظة في سياساتها الخارجية مؤخراً وبندّية مع مختلف الأطراف إلى حد معقول.

إن تصرف تركيا باستقلالية واضحة عن الموقفين الأوروبي والأطلسي وعن انتظارات الولايات المتحدة الأمريكية منها، ووفق ما تمليه عليها مصالحها في الملفين السوري والليبي وفي ملف غاز شرق المتوسط ومختلف قضايا المنطقة، كل ذلك يشكل الأرضية العملية سياسياً وعسكرياً لخطوة رمزية من قبيل آيا صوفيا.

هنا، تؤكد أنقرة معنى السيادة، فترفض أي تدخل من أطراف أخرى في قرارها الذاتي، وتحصن قرارها بالمطالبات الشعبية والقرار القضائي، محذِّرة من مقاربة الأمر بما يمكن أن يخدش إطار سيادتها واستقلالها. لدرجة أن مواقف شبيهة صدرت ليس فقط عن الحكومة والحزب الحاكم وحليفه، وإنما كذلك من بعض الشخصيات المعارضة وفي مقدمتهم القيادي السابق في حزب الشعب الجمهوري والمرشح الرئاسي السابق محرم إنجة.

ولعل في قرار آيا صوفيا إشارة واضحة إلى استمرار أنقرة في المسار نفسه مستقبلاً، بل ربما تعميق بعض مساراته، وهو ما يمكن ملاحظته في الملف الليبي وغاز شرق المتوسط مؤخراً.

أخيراً، مع كل هذه الدلالات والتبعات وفي ظل تراجع حدة الاعتراضات الخارجية على القرار، سيكون من المفيد لتركيا أن تثبت مع الوقت التزامها الحفاظ على التراث المسيحي والإنساني في آيا صوفيا، وهو ما حصل سابقاً بعد الفتح إلى اليوم وما تؤكده التصريحات الرسمية التركية.

وتحتاج كذلك إلى خطاب هادئ يمكنه اختراق دوائر الرفض الخارجي، لا سيما حين يؤكد أن الأمر متعلق بقرار داخلي وسيادي لتركيا، ولا يأتي ضمن صراع حضارات أو أديان على الرغم من الرمزيات الواضحة سالفة الذكر.

وهو خطاب يبدو مهماً في مواجهة تحفظات اليونسكو وانتقاداتها، ذلك أن الحفاظ على التنوع الموجود في آيا صوفيا الذي يكثف تاريخها بشكل بديع، وهو سبب إضافتها إلى قائمة التراث الإنساني، سيبقى موجوداً وقائماً بعد إعادة المبنى مسجداً، ما يعني أنه لا توجد ذريعة محقة لإعادة النظر في الأمر، على ما هددت به المنظمة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً