تابعنا
تدخُّل روسيا في الصراع السوري في الربع الأخير من عام 2015 جاء في سياق حملة أكاذيب روّجتها موسكو آنذاك، ترتكز هذه الأكاذيب على مقولة رئيسية تصوّر الصراع في هذا البلد على إنه صراع بين تنظيمات إرهابية.

الأكذوبة الروسية لا تزال تُستخدم كحجة لاجتياح المناطق، التي خرجت عن سيطرة النظام السوري، ولهذا استخدمت موسكو سياسة الأرض المحروقة، بعد تقسيم تلك المناطق إلى أربع، أطلقت عليها تسمية "مناطق خفض تصعيد وتوتر".

وبدا واضحاً بعد سقوط الجزء الشرقي من مدينة حلب بفعل الغارات الروسية المدمرة على الأحياء السكنية، أن روسيا تعتمد سياسة تجزئة المناطق المحررة والاستفراد بكل جزء على حدة، تحت مبررات غايتها إعادة سيطرة النظام على هذه المناطق.

ولعل ما جرى ويجري في محافظة إدلب ومناطق غربي حلب والريف الشمالي لحماة من هجمات وحشية يندرج ضمن السياسة الروسية التي تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية، المبدأ الأول يتمثل في استخدام أقوى كثافة نارية حارقة ضد مناطق حاضنات الثورة الشعبية السورية، أما المبدأ الثاني فيتمثل في قضم هذه المناطق بالتدريج وممارسة سياسة التطهير السكاني التي يراد منها التغيير الديمغرافي في هذه المناطق لمصلحة المليشيات الأجنبية التي أتت للقتال مع النظام ضدّ السكان الأصليين. أما المبدأ الثالث في السياسة الروسية في سوريا فيقوم على اختلاق أكاذيب ثم تسويقها تحت حجة محاربة الإرهاب.

الحجة الروسية في محاربة الإرهاب تخفي خلفها حقائق مطامع روسيا في سوريا، فالروس لم يتدخّلوا للدفاع عن نظام حكم بشار الأسد لأنه حليفهم فحسب، ولكنهم تدخّلوا لغايات استراتيجية تتعدى حدود جغرافية هذا البلد. ولعل موقع سوريا الجيوسياسي على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، سيعطي أفضلية لروسيا في فرض نفوذها في مناطق شمال أفريقيا ومنطقة الخليج العربي وأوربا.

السياسة الروسية استطاعت تحقيق أهداف مؤقتة في مناطق خفض التصعيد الثلاثة الأولى، ولكن هذه السياسة في منطقة خفض التصعيد الرابعة، ونقصد منطقة شمالي حماة ومحافظة إدلب، كانت تُبنى على المسار ذاته الذي مارسته موسكو مع تلك المناطق، وهذا ما جعلها سياسة تقوم في جزء من حساباتها على الرهان على عدم انخراط تركيا في الدفاع عن إدلب.

الروس الذين وقّعوا مع تركيا اتفاق سوتشي ببنوده العشرة، هم من انقضّوا على هذا الاتفاق وانتهكوه علناً، ولعل عدم فرضهم سحب السلاح الثقيل من مناطق النظام المشمولة باتفاقية سوتشي يكشف عن عدم احترامهم لاتفاقهم مع تركيا، في وقت نفّذت فيه تركيا ما يتوجب عليها في هذا الشأن.

كذلك ضمن الروس وقفاً شاملاً لإطلاق النار في هذه المنطقة، ومع ذلك لم يُلزموا النظام السوري الذي يضمنونه بهذا الإجراء، هذا النظام شنّ هجمات فظيعة بحق سكان هذه المناطق من أجل تنفيذ سياسته بالتطهير العرقي، مما أدى إلى حالة نزوح كبرى من قرى محافظة إدلب وبلداتها، وبلدات شمالي حماة ومناطقها، الأمر الذي هدّد الأمن القومي للدولة التركية.

لم يكتفِ الروس بدعم هجمات النظام على إدلب بالغارات الجوية، بل قادوا بأنفسهم وعبر مليشيات تابعة لهم هذه العمليات، وهم من يقف خلف غارات النظام السوري على نقاط المراقبة التركية في إدلب، فالنظام لا يملك القرار القادر على شنّ هذه الغارات التي تسببت في استشهاد أكثر من ثلاثين جندياً تركياً.

هذا الموقف الروسي المعادي لمصالح الدولة التركية، لا يتسق مع مستوى العلاقات بين البلدين اللذين تجمعهما علاقات اقتصادية، يبلغ حجم التبادل التجاري بينهما حدود الثلاثين مليار دولار أمريكي، كذلك بينهما مشاريع هامة في مقدمتها مشروع نقل الغاز الروسي عبر تركيا إلى أوروبا.

الموقف العدائي الروسي حيال الدور التركي المتفق عليه بين البلدين روسيا وتركيا، يخفي سياسة غير أخلاقية تنتهجها موسكو نحو شريكتها أنقرة، هذا الموقف يتضح من انتهاك الروس لاتفاقهم الموقّع مع الأتراك في سوتشي عام 2018.

هنا يمكن للمراقب المتابع لهذا الشأن طرح الأسئلة الضرورية التي يمكن أن تضيء خفايا السياسة الروسية، والكيفية التي تنظر بها روسيا إلى تركيا.

ولعل أهم الاسئلة الُملحّة هو لماذا تقايض روسيا علاقاتها مع دولة كبيرة وهامة هي تركيا، وترتيبها الاقتصادي يشغل المرتبة السادسة عشرة في مجموعة العشرين الأكثر تطوراً اقتصادياً على المستوى العالمي، بعلاقات مع نظام استبدادي فاسد ومتهم بجرائم ضد الانسانية وغيرها من الاتهامات الدولية بحقه؟

ولماذا تقاتل روسيا من أجل بسط نفوذ هذا النظام على إدلب، وهو أمر يسبب مأساة نزوح إنسانية للسوريين أصحاب البلاد؟ في وقت تقوم فيه بدوس توقيعها على اتفاقات سوتشي وغيرها مع الأتراك ومع قوى المعارضة السورية؟

إذن يمكن القول إن الروس لهم أهداف غير معلنة في سوريا، وهي ما يشكل دافعهم الرئيسي في زيادة تعقيد الصراع السوري، وهم يعرقلون كل حل سياسي مطروح خارج تصورهم الخاص للحل السياسي المتمثل في إعادة إنتاج النظام الاستبدادي ونسف محتوى القرار الدولي 2254 الذي اشتركوا هم كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن بإصداره.

أهداف روسيا في سوريا تتعدى حماية النظام السوري المتهالك الذي لن يستطيع إعادة الشعب السوري إلى مربع حكمه بعد تآكله في خضم مجريات الثورة السورية. وهذه الأهداف تنحصر في ضرورة المحافظة على نظام حكم يجدون فيه أداة طيّعة في السيطرة على الدولة السورية وثرواتها وموقعها الجيو سياسي. وخير دليل على هذا الرأي، هو مجمل الاتفاقيات التي سيطرت بموجبها روسيا على ميناء طرطوس وعلى مناجم الفوسفات وعلى القوات المسلحة وأجهزة الأمن، إضافة إلى حقوق التنقيب عن الغاز والبترول في الساحل السوري وغيرها من الاتفاقات المفروضة على نظام مستبد لا يفكّر في غير ديمومته المستحيلة.

كذلك فإن موقع سوريا الجيو سياسي سيساعد الروس في فرض نفوذ في منطقة البحر المتوسط والخليج العربي وشمال إفريقيا، ولعل تدخلهم إلى جانب الجنرال المتقاعد خليفة حفتر يكشف عن مطامعهم في ليبيا وإقليم شمال إفريقيا برمته.

وفق ما تقدّم، نستطيع فهم العداء الروسي الحالي لتركيا في إدلب، هذا العداء يرتكز على منع تركيا من تأمين أمنها القومي في حدودها الجنوبية المشتركة مع سوريا، وهذا يعني شَغل تركيا ومنعها من لعب دور حقيقي لمصلحة الشعب السوري، عبر تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالحل السياسي في هذا البلد.

فالروس لا يريدون تنفيذ القرار 2254، لأن هذا القرار يسمح للسوريين باستعادة وطنهم وقرارهم المستقل، ويسمح لهم بإبطال كل قرارات وقّعها النظام المتهالك مع روسيا أو إيران. لأنها قرارات تمس السيادة السورية وحقوق الشعب السوري برمته، ووُقعت من دون إرادته الحرة.

ولكن الروس لم يدركوا بعد أن الإصرار التركي الصلب على إقامة منطقة آمنة في إدلب هو أولوية أمنية وسياسية واستراتيجية تركية تقف خلفها مصالح الأمة التركية، ولهذا لن يستطيع الروس الاستمرار برهانهم على تراجع تركي في هذا الشأن.

 بقي أن نقول إن السياسة الروسية لا تحكمها قواعد دولية وأخلاقية، وهي سياسات تقوم على ذهنية المافيات التي لا ترى غير مصالحها الضيقة، ومستعدة لتحقيقها على حساب كل من يقف في وجهها، وهذه السياسة لا مستقبل لها وقد جرّبتها قوى دولية فشلت في تحقيقها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي
الأكثر تداولاً